حبّ والدة
إعداد راهبات دير مار يعقوب الفارسي – دده، الكورة
يُحكى أنّ امرأة عوراء عاشت الحياة وقسوتها بعد موت زوجها. فعملت جاهدة لتقوم بتربية طفلها. لمّا أدخلته المدرسة حزنت لفراقه، وفرحت في الوقت نفسه لأنّه يعدّ مستقبله. ولمّا أتت يوماً إلى المدرسة ابتعد ابنها عنها نافراً منها. سألته في البيت عن سبب تصرّفه، فأجاب الطفل: أمّي، لا أريدك أن تأتي إلى المدرسة. لقد سخر منك رفاقي وضحكوا علي عينك المقلوعة. لم تهتمّ الأمّ كثيراً لملاحظة وحيدها معلِّلة صراحته بعفويّة الأطفال.
مرّت الأيّام، وغدا الابن يافعاً تفتخر به أمّه، وتزهو بشبابه وتألّقه، بينما كان الابن يصرّ في كلّ مناسبة على إبعادها عن حياته حتّى لا يراها رفاقه لخجله منها ومن عينها المقلوعة. لم تجد الأمّ سبيلاً لإقناعه بقبول عاهتها حين فضّل الهروب منها وعنها، وآثر الدراسة في الخارج، وانقطع حتّى عن مراسلتها إلاّ قليلاً عندما كان يحتاج إلى المال أو أيّ معونة أخرى. مرّت الأيّام، وسمعت الأمّ من أقاربها بأنّ ولدها قد تزوّج، فهاجت فيها عاطفتها، واستجمعت ما تبقّى لها من قوّة ومال وسافرت حاملة معها الهدايا والألعاب، وقصدت البلد البعيد. فتحت لها كنّتها الباب ورحبّت بها، ثمّ أسرعت إلى زوجها تبشّره بقدوم أمّه. خرج ابنها إليها متجهّم الوجه، واستقبلها بفظاظة الولد العاقّ قائلاً: لماذا لحقت بي إلى هنا؟ ألم أهرب منك. ماذا تريدين منّي؟ لم تحتمل الأمّ الصدمة، وخرجت من عنده عائدة إلى بلدها وكأنّ الصاعقة نزلت على رأسها.
مرّ الزمن، وصار الابن أباً، وعرف قيمة الأمومة والأبوّة. وفي يقظة ضمير، ندم على فظاعته وفظاظته، فقرّر العودة إلى بلده ليستغفر من أمّه على فعلته. قصد بيتها ليفاجأ بأنّها رحلت عنه. بحث عنها، ولمّا وصل سأل الجيران عن أمّه، فأجابوه بأنّها قد فارقت الحياة قبل أيّام قليلة لكنّها تركت له رسالة تقول فيها: "ولدي الغالي، يعزّ عليّ أن أفارق الدنيا دون أن أراك. لكنّها رغبتك أن أظلّ بعيدة عنك كيلا تُحرَج برؤية امرأة عوراء. لكن سأحكي لك حكاية أخفيتها عنك عمراً. عندما كنتَ طفلاً صغيراً تعرّضتَ لحادث مريع ذهب بعينك، ولم يكن هناك من بديل عن أن أهبك عيني لترى بها الدنيا. أمّا أنا فتكفيني عين واحدة أرى بها وجهك الغالي".