قصة اليوم: العم راضي
وأنتم، أيها الرجال، أحبوا نساءكم كما أحب المسيح الكنيسة : لقد بذل نفسه لأجلها" ) أف 5 : 25 (لم أكن أفهم هذه الآية يا أحبائي حتى عشت أحداث قصة "عم راضي"، إسمحوا لي أن أشرككم معي قصته :عم راضي رجل طيب عاش في القاهرة فى منطقة جزيرة بدران ، حتى تنيح فى بداية السبعينيات من القرن الماضي. كان رجلاً عادياً يخرج كل يوم إلى عمله، ويراه أهل شارعه في ذهابه وإيابه، ولا يعلم أحد منهم أي عظمة يحملها هذا الرجل.
لقد تزوج عم راضي في شبابه بزوجة جميلة ملأت حياته بهجةً وسروراً، ورزق منها بطفليه الصغيرين، ولم يكن هناك ما يعكر صفو حياته ، ولم يكن يدري ماذا تخبيء الأيام لهذه الأسرة السعيدة. فما مرت أعوام قليلة على حياتهما الهانئة حتى نكبت الأسرة بمرض الزوجة الشابة، وجاء تشخيص المرض صادم، إنه نوع خطير ومزمن من ضمور العضلات، فما هي إلا شهور قليلة حتى كانت الزوجة طريجة الفراش لا تحرك ساعداً أو ساقاً، وهنا بدأ إختبار معدن هذا الرجل العملاق .
كان عم راضي يبدأ نهاره مبكراً جداً، يبدأه راكعاً بجوار سرير زوجته مرنماً مزامير صلاة باكراً بصوت رخيم مسموع حتى تشترك زوجته معه في الصلاة، ثم يعدّ طعام الإفطار لطفليه، ويعتني بأمر إستحمام زوجته وتغيير فرشتها، ثم يحملها مرة أخرى إلى سريرها ليقوم بإطعامها بيده، ثم يصحب طفليه إلى مدرستيهما، وحينما يعود من عمله يعيد ما عمله صباحاً، ثم يحمل زوجته على كرسيها إلى شُرفة شقتهما المتواضعة،وهي جسد هامد لا يتحرك فيه سوى اللسان والعينان، حيث يعدّ لها الشاي ويأنس بمجالستها، ويفرح بحديثها الهامس البسيط، ويحكي لها كل ما يسر قلبها، ملقياً عنها أي إحساس بالضيق أو كآبة المرض. لم يضجر مرة ولم يحتج، لم يشتك قط، بل كان دائم الإبتسامة في وجهها وأمام الناس .
هل تعلم كم من الزمن مرَّ على عم راضي وهو راضٍ بما قسم الله له ؟ ثمانية عشر عاماً، نعم، ثمانية عشر سنة كبر خلالها طفلاه، وكبر حبه لزوجته المشلولة ولم يكن يعكر صفو حياته إلا بعض من أقاربه :
لماذا ترضى يهذه العيشة ؟
كيف تدفن نفسك بهذا الشكل ؟
اودعها فى مصحة أو دار رعاية وهم قادرون على رعايتها .
نحن نساعدك الحصول على الطلاق !! ،
لماذا تعيش هذا القهر مازلت في عز شبابك ....
كل هذه السماجات أغلق الباب أمامها تماماً، بل وقاطع بعضاً من أقاربه الذين ألحوا عليه فى هذا الأمر، وصرخ فيهم مرة "لن يجرؤ أحد أن يهدم هذا السر المقدس الذي ربطني به الروح وزوجتي، إنها جسدي، إنها لحمي، كيف تقطعونه مني؟ وهل كنتم ستقولون مثل هذا الكلام لزوجتي لو قدر أن إنعكس الحال وكنت أنا المريض ؟ إن من يدخل بيتي عليه أن يحترم السر المقدس الذى أقيم عليه هذا البيت". كان يتكلم بكل قلبه كمن إختبر سر المسيح الذي أحب الكنيسة كجسده وإرتفع بسر الزيجة المقدسة إلى مستوى سر حبه هو، له المجد، لهذه الكنيسة.
آه يا عم راضي، إن الكنيسة حافلة فعلاً وزاخرة بالقديسين من أمثالك، لقد إنتقلت زوجتك بعد أن أكملت أنت الرسالة معها كاملة، كبر الأولاد، وإنفضت المسؤوليات، فعاد الأهل إلى نصيحتهم لك بالزواج !! . وماذا ستكون حجتك الآن ؟ لقد تعبت زماناً، ومن حقك أن تبدأ من جديد، وهذا هو الناموس والقانون، وأنت إحترمت القانون ولم تكسر الناموس .
وألحوا، وزادوا فى الضغط والإلحاح، وألحوا بأكثر شدة، وكانت الضغوط أقوى من أن يحتمل الرجل، فرضخ للأمر، حيث إختار له الأقارب "عروسة" جديدة، وتمت الخطبة فعلاً وسط فرحة الكل، إلا عم راضي، فلم يكن قلبه راضياً وفوجئنا كلنا بوفاة عم راضي بعد أسبوع واحد من الخطبة وهو في كامل صحته، وأبى إلا أن يكون معها فى السماء وكأنه يقول لنا، أن الروح أعظم من الحرف، والوفاء أسمى من الناموس، وإن ما جمعه الله لا يفرقه إنسان.