حوار مع يهوذا الإسخريوطي

حوار مع يهوذا الإسخريوطي

كنت أقرأ فى كتابى المقدس قصة الغنى ولعازر كما ذكرها معلمنا لوقا البشير فى الإصحاح السادس عشر من إنجيله على لسان ربنا يسوع له المجد ، كان الحديث يجرى بين المسكين الذى لم يقدر قيمة خلاص نفسه وباعها بمحبته لغنى العالم وأمواله ، وبين إبراهيم أبى الإيمان ، وبينما أنا مستغرق فى الإستماع إلى الحديث ومتأملا فيه ، إذا بحديث آخر يسترعى إنتباهى إذ رأيت رجلا مذعورا يقف على حافة هاوية الجحيم يصرخ مناديا على القديس بطرس الرسول بجوار إبراهيم على الجانب الآخر وبين المكانين هوة سحيقة ....

لاحظت أن الرجل جاهظ العينين ، أزرق الوجه ، وآثار حبل يرسم جرحا حول رقبته وكأنه مات مخنوقا ، وتأكدت من شخصه حينما أرهفت السمع لألتقط الحديث :

+ يا أخى بطرس ، يا أخى بطرس ، ألا تذكرنى ؟ أنا زميلك ، أنا يهوذا ، أنا الذى حمل الصندوق وكان يصرف عليكم ولم أبخل أبدا أن يعطيكم إحتياجاتكم وأكثر ، إلتفت إلىَّ وإنقذنى ، بِلّ طرف أصبعك وأعطنى ، مستعد أن أدفع لك المال الذى تريد

+ ألا زلت تتكلم عن المال يا يهوذا ؟ ألا يكفيك ما حدث لك بسبب المال ومحبتك له ؟

+ أنت تنكر دائما فضلى عليك ، لقد قلت للمُقعَد على باب الجميل " ليس لى ذهب ولا فضة " ، أليس هذا إنكار لفضلى عليك ؟ أنسيت كم صرفت على جماعتكم من مال ؟ أنت تنكر ، أنت ناكر لجميل ، يا ناكر ، يا ناكر

+ يا يهوذا أنت تحاول أن تعيرنى بقصة إنكارى لربنا يسوع ، أنا أفهم لغتك ، لا تحاول يا يهوذا ، لقد إنتهت هذه القصة ، يسوع يحبنى ، لقد محا حبه خطأى ، وأكمل حبه نقصى ، وقوى حبه ضعفى

+ أليست هذه حقيقة ؟ ألم تنكره ثلاث مرات ؟ ثم أننى ندمت وأرجعت المال إلى أصحابه ، بل وشهدت أنى أخطأت إذ أسلمت دما بريئا ، لقد شهدت لبر المسيح ، أنت لم تفعل مثلى . . !

+ نعم ، أنا أنكرت ، ونعم أنت ندمت ، ولكنك لم تفهم أن إنكارى تبعه توبة ، وندمك لا يرتئى إلى التوبة أبدا ، أنت ...

+ دعنى أقاطعك هنا ، لا تكمل ، لقد شهدت الآن أن هناك ( خيار وفاقوس ) ، لأنك جليلى مثله ، كلكم من الجليل ، أنا الوحيد من إسخريوط ولست جليليا مثلكم ، لقد كان يحبكم أكثر منى ، لقد كان يفضلكم ، لقد ...

+ بل دعنى أنا أقاطعك ، هذه مشكلتك يا يهوذا ، صغر النفس ، كنت تشعر بيننا أنك مختلف وأنك مضطهد وأنك غير محبوب ، هذه مشكلة كثير من الناس حينما يشعرون بإحساس كاذب أنهم غير محبوبين من إخوتهم أو والديهم أو مرؤسيهم ، أليست هذه مشكلة إخوة يوسف التى قادتهم إلى إلقائه فى البئر ؟ الغيرة والحسد ، ألم تشعر بمحبة يسوع لك ؟ ، ألم يعطيك أمانة الصندوق ليشعرك بثقته فيك ؟ هذه الثقة التى خنتها إذ كنت تسرق ما يلقى فيه ( يو 12 : 6 ) !! ، ألم يغسل رجليك مثلما فعل معنا ؟ بل أنى أذكر أنه بدأ بك قبل أن يفعلها معى ، لقد كان يكشف نيات قلبك ولم يعنفك أبدا ولم يكن عتابه لك إلا بكل رقة فى محاولة منه – له المجد – أن ينبهك وينخس ضميرك ، لقد رأيت نظرة عينيه لك وهو يعاتبك : ( أبقبلة تسلم إبن الإنسان ؟ ) ، كانت نظرة كلها حب ، ولكن محبة المال كانت قد أعمت عينيك أن ترى هذا الحب وعن أن تدرك أعماقه

+ قلت لك أننى أرجعت المال ، وحينما رفض رؤساء الكهنة ال ( ..... ) أخذه ألقيت به لهم ، ألم تقرأ ما كتبه إخوتك الإنجيليين فى أناجيلهم ؟ وبعد هذا تقول عنى فى أعمال الرسل ( فإن هذا إقتنى حقلا من أجرة الظلم ) أع 2 : 18 ، ألا زلت تسمينى ظالما بعدما ندمت ، بعدما ألقيت بالمال لأصحابه ؟

+ لقد إشتريت الحقل يا يهوذا ، لا تحاول أن تتملص من عملتك بمجرد أن ألقيت المال ، أو حتى أنك حاولت إرجاعه

+ هذا إنحياز ، هذا ظلم ، لقد ندمت ، ندمت ، ندمت . . .

+ نعم ندمت ، ولكنك لم تتب ، لقد تقابلت مع نفسك وتفاوضت معها فى ندم وهذا حسن ، وتقابلت مع رؤساء الكهنة والشيوخ وحاولت إرجاع المال فى ندم وهذا أيضا حسن ، ولكنك وقفت عند هذا الحد ولم تتقابل مع أهم شخصية كان ينبغى أن تلتقى بها ، أنت لم تتقابل مع ربنا يسوع ، وهذا هو الفرق بين الندم والتوبة ، الندم خطوة على طريق التوبة ، الندم هو اللقاء مع النفس ، والتوبة هى حمل هذه النفس واللقاء بها مع يسوع ، وأنت إنحصرت فى نفسك فقط ، أنت وقفت فى منتصف الطريق فإنحدر بك إذ لم تستند على محبة يسوع

+ أتظن أنه كان سيقبلنى ؟ لا أظن ، لم يكن ليحبنى بكل هذا الحب حتى يغفر لى ما فعلت به

+ كان يحبك يا يهوذا وكان ينتظر عودتك ، تماما كما كان ينتظرنى وبنظرة أعادنى ، كان يحبك يا يهوذا ، خطيتك لم تكن سببا فى هلاكك أبدا ، يأسك هو السبب ، أعذرنى يا يهوذا ، يا من كان لك نصيب فى خدمتنا وتهاونت به ، أعذرنى إن قلت لك أن الإيمان والرجاء والمحبة هى أعمدة علاقتنا بربنا يسوع ، وأنت للأسف لم تمسك بالإيمان ، وشككت فى محبته ، ويأست من رحمته ولم يكن لك رجاء فيه أبدا ، أنت حكمت على نفسك ، لم يحكم هو عليك أبدا ، هو يحبك

طرق المسكين برأسه فى أسى ثم صرخ فى وجه بطرس :

+ وأين محبتكم أنتم ؟ أين ما تتكلم به عن المحبة وأنتم تشمتون بى ، أنت تلقى عنى عظة فى الإصحاح الثانى من سفر الأعمال ، وتنعتنى بصفات صعبة وتستشهد بمزمور داود النبى ، وتنتخبون متياس الرسول بدلا منى ، ولم يقف الأمر عند هذا الحد ، بل تتهكمون علىّ فى عظاتكم على منابر الكنائس ، لقد صرت مدغة فى أفواه الوعاظ كل أربعاء بصخة ، ثم أخبرنى بربك ، لماذا هذه الزفة التى تزفنى بها الكنيسة القبطية فى صلاة باكر خميس العهد ، زفة ( بالشقلوب ) حتى الدف فى يد الشماس يمسكه بالمشقلب ، أليس فى هذا سخرية وإستهزاءا بى ؟ هل هذه هى المحبة التى تتكلم عنها ؟

+ يا يهوذا ، لقد فَهِمَت الكنيسة القبطية المعنى الروحى لأى زفة تمارسها للقديسين ، الزفة هى مسيرة القديسين مع ربنا يسوع ضد العالم الزمنى ، لهذا فالزفة تدور عكس عقارب الساعة ، أما حينما تعطى الكنيسة الدرس لأولادها وتحذرهم من مصير من ييأس من رحمة يسوع ويقف عند حدود الندم ولا يتقابل مع يسوع فى التوبة ، تكون الزفة مع عقارب الساعة ، أى بالشقلوب كما تقول ، لأنك إخترت العالم يا يهوذا وسرت مع عقارب الزمن والعالم ، إننا لا نهزأ بك أبدا ، وحاشا أن نفعل هذا ، نحن نحبك وكم كنا نتمنى أن تكون معنا ، ولكنك صرت مثلا لمن قال عنهم يوحنا الحبيب : ( منّا خرجوا لكنهم لم يكونوا منّا ، لأنهم لو كانوا منّا لبقوا معنا ) 2 يو 2 : 19 ، وأظنك لا تشكك أبدا فى محبة هذا الرسول رقيق المشاعر والمحب !! ، الموضوع يا يهوذا هو مسألة تعليم وتحذير من الكنيسة لأولادها ، بل دعنى أذكرك بمثال ربنا يسوع عندما كان يتكلم معنا عن نهاية العالم وكان يحذرنا مستخدما نفس الإسلوب قائلا : ( أذكروا إمرأة لوط ) – لو 17 : 32 - ، ألم تستمع معنا لهذا الكلام ؟ هل كنت تستطيع أن تتهم ربنا له المجد بعدم المحبة ؟ حاشا ، إننا نتبع الإسلوب ذاته ونعلم أولادنا ، ولا نشمت بك ولا بإمرأة لوط

أحبائى ، أشكر يسوع أنه أعطانى هذه الفرصة الرائعة أن أستمع إلى هذا الحديث بالصدفة وأنا أقرأ قصة الغنى ولعازر ، أشكر الله الذى لم يتركنى معثرا وحائرا ، الآن أستطيع أن أعظ عن يهوذا فى أربعاء البصخة بضمير مستريح ، وأن أشترك فى زفة ( الشقلوب ) ، نعم ، هى ( وسيلة إيضاح ) تستخدمها الكنيسة لتحذيرنا من أن نحب العالم ونسير فى ركابة ، فالعالم يسير مع الزمنى ، مع عقارب الساعة ، أما نحن ، فلنا فكر المسيح ، ونتبعه ، ونسير معه ضد الزمنى ، وزفتنا معه ومع القديسين ضد عقارب الساعة

(أبونا بسنتي عبد المسيح)