كاتدرائية آيا صوفيا في كييف
هي من أروع الآثار لفن العمارة الروسي القديم وكاتدرائية رئيسية لمطارنة كييف في الماضي. بنيت كاتدرائية آيا صوفيا من قبل الأمير يارروسلاف الحكيم تذكاراً لانتصاره العظيم على جيش قبائل البجناك الضخم في عام 1037.
يتراوح تاريخ وضع حجر أساسها في المدوّنات التاريخية المختلفة بين عام 1017 أو 1037. كان الهدف من إنشاء هذه الكنيسة الضخمة إثارة الوعي الديني عند الروس والتبشير عن طريق فنّ العمارة وبهاء الخدمة الكنسية. كانت الكاتدرائية مثل سمّيتها البيزنطية مكرّسة للحكمة الإلهية، وصارت مركزاً اجتماعياً وثقافياً لروسيا الكييفية، حيث كانت تتمّ فيها مراسم تنصيب الأمراء على العرش واستقبال السفراء ويجتمع عند جدرانها مجلس الشعب وأنشئت فيها أوّل مكتبة في روسيا الكييفية.
بنيت الكنيسة على يد المعماريين البيزنطيين وزُيّنت من قبلهم أيضاً. بالرغم من أعمال الترميم وإعادة البناء في العصور اللاحقة، يمكن اعتبار هذه الكنيسة نموذجاً لفن العمارة البيزنطي ليس في روسيا الكييفية فقط، بل في أوروبا كلها، وهي بناء وحيد يبقى قائماً منذ القرن الحادي عشر على أراضي روسيا التاريخية.
كانت الكاتدرائية في عصر ياروسلاف الحكيم محاطة بالكنائس الحجرية وقصور النبلاء وبيوت أهل المدينة. ولكن لم يصل إلى أيامنا هذه إلا أطلال البوابة الذهبية وهي المدخل الرئيسي إلى كييف آنذاك.
الشكل الأوّلي للكاتدرائية كان طويلاً ويشبه الهرم، يتكوّن من خمسة أقسام. كان التصميم الداخلي والخارجي يبرز شكل الصليب. كانت القبّة الرئيسية محاطة بأربع قباب أصغر حجماً، وعلى أركان الكاتدرائية ثماني قباب صغيرة جداً. كان طول الكاتدرائية (بدون الأروقة) 29 متراً ونصف وعرضها أكثر من 29 متراً، وارتفاعها حتى قمّة القبّة الرئيسية 28 متراً ونصف، علماً بأن الكنائس في بيزنطة في ذلك العصر كانت أصغر حجماً وكان لها 3 أقسام وقبّة واحدة فقط. في نفس الوقت كان لشكل كاتدرائية آيا صوفيا رمزية عميقة: كانت القبّة الرئيسية للكنيسة في فن العمارة البيزنطي ترمز إلى رأس الكنيسة أيْ المسيح، والقباب الاثنتا عشرة الأصغر حجماً كانت ترمز إلى الرسل، وأربعة منها ترمز إلى الإنجيليين.
لا تزال الرسومات الجدارية الأصلية الرائعة من الفسيفساء موجودة في الكاتدرائية وهي ترجع إلى القرن الحادي عشر. داخل القبّة توجد صورة المسيح الضابط الكل وحوله أربعة من رؤساء الملائكة.
أشهر فسيفساء للكاتدرائية هي صورة والدة الإله المعروفة باسم "أورانتا" (معناها باليونانية "المصلّية" ويسمّونها في روسيا أيضاً "سور لا ينهدم") وهي موجودة في الجزء العلوي من انحناءة الهيكل الرئيسي. هذه الصورة هي السائدة في الكاتدرائية وأيقونتها الرئيسية. ارتفاعها حوالي 6 أمتار. عند صعودك الطابق الثاني للكاتدرائية المخصّص للأمير والنبلاء تفهم بأن صورة والدة الإله على الأيقونة الرئيسية تظهر بشكل مختلف: عندما تعبر عتبة الكنيسة تجد "أورانتا" كأنها تخطو خطوة نحوك، وإذا نظرت إليها من الهيكل تراها جالسة على العرش، ولكن من الطابق الثاني ترى أن والدة الإله في الحقيقة واقفة وهي ترفع يديها في الصلاة.
كان أهل كييف يربطون بصورة "أورانتا" منذ قديم الزمان معانٍ ميستيكية خاصّة وكانوا يؤمنون بأنه ما دامت "أورانتا" موجودة في آيا صوفيا ستبقى كييف قائمة. "أورانتا" هي رمز لكييف الخالدة. كانت العصور تتلاحق والكاتدرائية تتعرّض لغارات ونهب ويتمّ ترميمها، ولكن "أورانتا" كانت تبقى كما هي وكأنها ترس يحمي كييف بالصلاة.
الصورة الأقدم في الفن الروسي لبشارة والدة الإله هي الفسيفساء من القرن الحادي عشر (ترجع إلى عام 1040). لكل الرسومات من الفسيفساء خلفية ذهبية ساطعة، وتتميّز بغنى الألوان وتنوّعها. الألوان السائدة هي الأزرق والأبيض والأرجواني. يبلغ عدد تدرّجات الألوان 177. كلّ الكتابات على الفسيفساء باللغة اليونانية.
كان في الكاتدرائية حوالي 100 ضريح من بينها تابوت الأمير ياروسلاف الحكيم (الذي لا يزال موجوداً اليوم) وأضرحة أبناء سلالته التي لم تصل إلى أيامنا هذه.
في عام 1240 تم نهب الكاتدرائية وتدميرها جزئياً على يد جنود المغول بقيادة باتو خان. ولكن آيا صوفيا كانت لا تزال في ذلك العصر مقرّاً للمطارنة الروس، وكانت الخدمة تستمرّ فيها بالرغم من التخريب. في أواخر القرن الرابع عشر قام المطران كبريانوس بإعادة ترميمها. في عام 1596 بعد عقد اتحادية برست استولى الروم الكاثوليك الوحدويون على كاتدرائية آيا صوفيا لثلاثة عقود من الزمن (ولكن تمكّن أهل كييف الأرثوذكس من صدّ محاولات الوحدويين في الاستيلاء على لافرا مغاور كييف وكنائس كييف الأخرى). أثناء سيطرتهم تدهورت حالة الكاتدرائية أكثر.
في الثلاثينات من القرن السابع عشر تسنّى لمطران كييف بطرس موهيلا الحصول على موافقة الملك البولندي فلاديسلاف الرابع على إرجاع كاتدرائية آيا صوفيا المخرّبة إلى الكنيسة الأرثوذكسية وترميمها. فقام بترميمها وأسّس ديراً للرجال فيها وجعلها مقرّاً لكرسي مطارنة كييف من جديد، فاحتفظت الكاتدرائية بهذه الصفة حتى بداية القرن العشرين. في عام 1654 أقرّ أهل كييف في الكاتدرائية قرار "مجلس بيرياسلاف" بقيادة الهيتمان (الأتامان) بوغدان خميلنيتسكي حول إعادة اتحاد أوكرانيا وروسيا.
كانت تقام في آيا صوفيا شرطونيات أسقفية (من بين الأساقفة المرسومين فيها كان القديس ثيوفان الحبيس). كانت أعمال الترميم تستمرّ حتى أواسط القرن الثامن عشر إلى أن اكتسبت الكاتدرائية شكلها الحالي، وهو يشمل صفات خاصّة بطراز المعمار الباروكي الأوكراني. أضيفت إليها في تلك الفترة الجرسية العالية (76 متراً) وقاعة الطعام والمخبز ودار المطران والسور والمدرسة الإكليريكية.
في العشرينات من القرن العشرين استولى على الكاتدرائية أتباع الانشقاق الكنسي الأوكراني. ولكن سيطرتهم لم تدم طويلا. كانت السلطات البلشفية في البداية تدعم الانشقاق وهي تهدف إلى تدمير الحياة الكنسية في أوكرانيا عن طريقه. ولكن لم يتبع المنشقين إلا عدد ضئيل من الناس، فانفكّت السلطات السوفييتية عن دعم الانشقاق. في عام 1934 تم إغلاق كاتدرائية آيا صوفيا وفي عام 1935 أُعلنت هذه الكنيسة القديمة محمية معمارية تاريخية حكومية "متحف صوفيا". على كل حال كان نصيبها أحسن مقارنة مع دير القديس ميخائيل وكاتدرائية الرقاد للافرا المغاور وغيرهما من كنائس كييف العريقة التي تم تدميرها في الحقبة السوفييتية.
صارت كاتدرائية آيا صوفيا أوّل الآثار التاريخية في أوكرانيا التي تمّ إدراجها في قائمة مواقع التراث العالمي لليونسكو. يزورها سنوياً حوالي مليونيْ نسمة. بما أن مبنى الكاتدرائية هو جزء من المحمية الحكومية التابعة لمواقع التراث العالمي يُمنع تسليمها إلى أية طائفة من الطوائف الدينية وإقامة الصلوات فيها. الاستثناء هو تاريخ 24 أغسطس (عيد استقلال أوكرانيا) عندما يقيم فيها ممثلو الطوائف المختلفة "صلاة مسكونية مشتركة" من أجل أوكرانيا منذ عام 2005 وذلك بتشجيع من السلطات. إلا أن الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية (بطريركية موسكو) أعلنت عن رفضها المشاركة في هذه الأنشطة المخالفة لقوانين الكنيسة الأرثوذكسية.
المجموعة: تحقيقات ووثائقيات من الكنائس السلافية
جميع الحقوق محفوظة لموقع "التراث السلافي الأرثوذكسي"