قصّة حقيقيّة : محبة حتّى المنتهى
كان مرض الجذام يمثّل كابوسًا رهيبًا طوال قرون طويلة إلى أن تمّ اكتشاف المضادّات الحيويّة في أوائل القرن العشرين. لا يشعر المريض بالمناطق المصابة، فيُجرح وينزف دون أن يلاحظ، أو تلسع النار أحد أجزاء جسمه دون أن يدري، وشيئًا فشيئًا، تتقيّح مناطق متفرّقة من الجسم وتتساقط، ويظلّ المريض يواجه الموت ببطء شديد إلى أن تغادر الروح الجسد فيستريح من أتعابه. ولأنّ العدوى بهذا المرض تنتقل باللمس، فقد كان لا بدّ من عزل المريض بعيدًا، فيبقى خارج المدينة يعيش مع المرضى أمثاله.
والآن، نستطيع أن نحكي هذه القصّة الحقيقيّة عن الأب دميان، الذي وُلد في بلجيكا عام 1840، ورُسم قسًّا عام 1860، وذهب إلى الخدمة في جزر هاواي في المحيط الهادي عام 1864. وأثناء ذلك، بدأ انتشار الجذام بين سكّان هاواي، فلم يكن أمام الحكومة سوى أن تخصّص لهم إحدى الجزر الصغيرة لتكون منفًى نهائيًّا لهم يقضون فيها ما بقي من حياتهم.
في العام 1873 اجتمع أسقف المنطقة مع كهنة الأبرشيّة لبحث كيفيّة إيصال رسالة السيّد المسيح لهؤلاء المجذومين. وطلب الأسقف من كلّ منهم أن يشرح ما يمكن أن يقدّمه لهؤلاء التعساء،
فقال أحدهم:
"سأجمع لهم معونات غذائيّة وملابس من الأغنياء وأرسلها لهم كلّ أسبوع".
وقال آخر:
"أقترح أن أقف في مركب قرب شاطئ الجزيرة وأعظهم كلّ أحد".
وانبرى ثالث قائلاً:
"وأنا يمكنني أن أعيش معهم!!!!!".
وفي الحال، تركّزت الأنظار على الأب دميان الذي قال هذا الاقتراح الخطير.
وساد القاعةَ صمتٌ تامّ إلى أن قطعه أحدهم موجّهًا الحديث إلى ذلك القسّ الشابّ "المتهوّر":
"هل تدرك معنى ما تقول؟
إنّك لو ذهبت إلى هناك ستصاب بالجذام،
وهكذا لن تسمح لك السلطات بالعودة إلينا.
- أعرف ذلك، ولكن قد أصاب به وأنا هنا؟
وأظنّ أنّ هذه هي الطريقة الوحيدة التي نوصل بها للمجذومين
شخص السيّد المسيح، وليس مجرّد معلومات عنه.
- ولكن لماذا تتلف جسدك، وأنت ما زلت شابًّا.
- هذا ليس إتلافًا،
"فإن لم تقع حبّة الحنطة في الأرض وتمت فهي تبقى وحدها.
ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير" (يوحنّا 12: 24).
واتّجهت أعين الحاضرين نحو سيادة الأسقف ليروا ما هو تعليقه على الحوار،
ولكنّ الأسقف لم يتكلّم، بل قام من كرسيّه متوجّهًا نحو الأب دميان
ليحتضنه بقوّة بين ذراعيه.
وهكذا فعل الحاضرون الواحد تلو الآخر، وكأنّهم يودّعون أخاهم الذي أخذ قرارًا مصيريًّا
لم يجرؤ أحد على اتّخاذه.
وبعد أيّام معدودة كانت الجزيرة تستقبل،
لأوّل مرّة، شخصًا غير مجذوم يأتي إليهم بمحض إرادته!
ولكنّ هذه التضحية ساعدته كي يعلّمهم قواعد النظافة والصحّة العامّة والأخلاقيّات..
كان يخدم بحبّ دون أن يترفّع عنهم أو يحاول تفادي الإصابة بالمرض!
فكان يجلس إلى مائدتهم ويأكل معهم من الطبق المشترك،
ويضمّد جروحهم ويلعب مع الأطفال المرضى.
وفي ظلّ هذه التضحية من الأب دميان الذي لقّبوه
"رسول المجذومين" صار سكّان الجزيرة يطيعون ويذهبون إلى الكنيسة
حيث أصبح قدّاس الأحد احتفالاً حقيقيًّا.
وكان منظرهم وهم يصلّون مثيرًا للدهشة بحرارة صلواتهم وخشوعهم العميق.
يا لروعتهم وهم يجرّرون أجسادهم المتآكلة المتهالكة،
ويتقدّمون لتناول جسد الربّ ودمه،
ويصغون لكلمات الأب دميان وهو يقول:
"إن كنت أنا أقدّم لكم جسدي المتواضع كي أشارككم مرضكم ومعاناتكم
إلاّ أنّ الإله المتجسّد يقدّم لكم جسده ودمه كي يموت معكم،
ولكنّه قام وهزم الموت وسيقيمكم معه".
وبدأ المرض يستشري في جسد الأب دميان
حتّى إنّه وضع قدمه سهوًا في ماء ساخن جدًّا دون أن يشعر،
فلمّا أخرجها رآها ملتهبة بشدّة وقد تقرّحت.
فأيقن أنّ المرض استفحل، فكتب إلى الأسقف:
"لم يعد لديّ شكّ أنّي مجذوم، وهذه نتيجة طبيعيّة متوقّعة لاختلاطي الطويل
مع شعبي وإخواني. إلاّ أنّي ما زلت قائمًا على قدمَيّ وسأحاول أن أواصل نشاطي
بقدر الإمكان كما كان في الماضي".
وفي يوم عيد الميلاد من العام 1889 احترقت يده،
واشتمّ رائحة لحم مشويّ دون أن يشعر بالحرق!
ولكنّه أرسل خطابًا آخر يقول فيه:
"ما زلت سعيدًا رغم المرض الشديد.
فقد تشوّه وجهي وأطرافي إلاّ أنّي ما زلت قويًّا وقادرًا بنعمة الربّ على التحمّل،
ولولا سرّ الإفخارستيّا لما كنت أحتمل.
ولكن بفضل حضور الربّ، فإنّ السرور لا يفارقني،
وأزداد حماسًا في عملي كي أسعد أحبّائي المجذومين.
وحتّى إذا كانت مغادرتي للجزيرة تضمن لي الشفاء،
فإنّي أفضّل أن أظلّ وسط إخوتي أعيش وأموت بينهم حتّى أربحهم جميعًا للمسيح".
وأخيرًا رقد الأب دميان بالربّ في يوم إثنين الباعوث
الموافق 15 نيسان من العام 1889 عن عمر 49 سنة.
ولم يكن من العسير على سكّان الجزيرة،
بل وعلى سكّان جزر هاواي كلّها،
أن يدركوا كيف يحبّهم الربّ حتّى المنتهى،
وما هو الفداء وما هي بهجة القيامة.