صوت صارخ في برّيّة القلوب:
"أعدّوا طريق الحبّ واجعلوا سبله مستقيمة."
يوحنّا المعمدان خاتم أنبياء العهد القديم ومهيّئ الطّريق أمام يسوع المسيح.
يوحنّا إسم عبريّ يعني (الله يتحنّن)،
سمّته والدته أليصابات كذلك كما يذكر الكتاب المقدّس في لوقا/1 الآية 60.
وأليصابات امرأة عاقر تحنّن عليها الله وهي طاعنة في السّنّ وزوجها وأرسل لهما ابناً.
"يوحنّا"
شخصيّة فريدة في الكتاب المقدّس تحمل الشّريعة بين يديها وفي قلبها وتتأمّل فيها
وتهيّئ لاكتمالها مع شخص يسوع المسيح.
وهو شخصيّة ثائرة فهمت من خلال تفاعلها مع النّور الإلهيّ
أنّ الإنسان بحاجة إلى ثورة على ذاته ليتغيّر من الدّاخل.
فالشّريعة وعلى الرّغم من أهمّيتها لم تحرّر الإنسان من قيوده الدّاخليّة،
وإنّما شكّلت حملاً ثقيلاً عليه. فالإنسان مخلوق حرّ ويصبو إلى الحرّيّة.
والله الحرّيّة الّذي يتفاعل مع حرّيّة مثله (الإنسان)
لا بدّ أنّه يواكب نموّ الإنسان الفكريّ والرّوحيّ والنّفسيّ.
خدمت الشّريعة الإنسان إلى حين، واليوم يحتاج إلى أكثر من قوانين وشرائع لتكتمل إنسانيّته.
وليتمّ هذا الاكتمال وجب التّحرّر من الشّريعة والثّورة على الذّات واكتشافها بكلّ قدراتها
وطاقاتها الّتي تمكّنها من الانطلاق نحو الله من خلال شريعة واحدة ألا وهي المحبّة.
عاش يوحنّا في البرّيّة وكان يكتفي بثوب من وبر الجمال ويقتات من الجراد والعسل البرّيّ.
(مرقس1 الآية 6).
هذا الزّهد والتّخلّي عن العالم هو الدّافع الأوّل للثّورة على الذّات.
والزّهد لا يأخذ هنا معناه الحرفيّ وحسب، إنّما يتخطّاه إلى الزّهد بمعناه الرّوحيّ.
ليس بالضّرورة أن يتخلّى كل إنسان عن العالم ويذهب إلى صومعة ينفرد فيها مع نفسه ليتأمّل ذاته،
ولكنّ الزّهد هو وقفة تأمّل داخليّ متجرّد من العالم.
وقفة حاسمة تقرّر الثّورة على العبوديّة والتّحرّر منها.
لقد أدرك يوحنّا أنّ الإنسان لا يتحرّر إلا إذا تاب عن خطاياه والخطيئة
ما هي إلّا رفض الله وبالتّالي رفض الحبّ. ما دام الإنسان مرتبطاً
بالحبّ الأسمى فهو سائر في طريق الحرّيّة بخطى ثابتة أمّا
وإن تخلّى عنه فهو سيغرق في عبوديّة الخطيئة
وكل ما ينتج عنها من تشويه للإنسانيّة.
مهّد يوحنّا لثورة المحبّة بادئاً بنفسه، فاختلى بها وتأمّل الشّريعة
ولا بدّ أنه عارف بها ومدرك لأهمّيّتها عند الشّعب اليهوديّ
وهو ابن كاهن خادم لبيت الرّبّ، فهي ميراث الآباء وكلمة الله لشعبه المختار.
ولكنّه أدرك أيضاً أنّها ليست الطّريق الحقيقيّ للّقاء بالله وإلّا فما الّداعي
للدّعوة إلى التّوبة في حين أنّ الشّعب اليهوديّ
كان يقدّم الّذبائح إلى الله لتُغفر خطاياه.
يوحنّا وبفكره الثّوريّ تحدّى ذاته أوّلاً، بالانفراد معها بصمت بعيداً عن ضجيج العالم،
وتحدّى ثانياً الطّبقة الّتي اؤتُمنت على الشّريعة اليهوديّة
والّتي بمعظمها أنهكت الإنسان بوصايا كثيرة تصل إلى ستّماية وثلاث عشرة وصيّة،
فأصبح الإنسان أقرب إلى العبادة السّطحيّة بعيداً عن الارتباط الحقيقيّ بالله.
أمّا يوحنّا فعشق الله وارتبط به وتفاعل معه فتحرّرّ
ومهّد لمن يأتي بعده ليعلن ثورة المحبّة، يسوع المسيح.
لا يذكر الكتاب المقدّس أنّ يوحنا كان يمارس طقوساً ليتقرّب من الله
أو ليتفاعل معه وهذا يدلّ على أنّ الارتباط بالله لا يحتاج طقوساً
وشرائع بقدر ما يحتاج إلى علاقة حميمة مع شخص الله، وعدم اعتباره معزولاً
عن العالم وإنّما قريب جدّاً لا بل أقرب من الذّات إلى الذّات.
بحث يوحنّا عن الله في ذاته فوجده،
وأعلن حقيقته الّتي لا تبتغي إلّا حرّيّة الإنسان.
لم يتلُ على مسامع النّاس فرائض الشّريعة ولم يطلب منهم الإكثار من تقدمة الذّبائح
بل دعا إلى الحرّيّة وإلى التّغيير الإنسانيّ الّذي يبدأ من الدّاخل.
هذا الثّائر العظيم يعلّمنا أنّ الثّورة خطوة نحو الحرّيّة
وإن كانت نتيجتها الموت ولكنّها مرتبطة بالحبّ، أي الله.
ومعنى ذلك أنّها لا تدخل في سراديب المصالح الشّخصيّة
وتنفي الخوف وتقتحم أبواب الموت وتصرخ عالياً معلنة الحقّ
وتقدّم ذاتها حرّة في سبيل الحرّيّة الإنسانيّة. وليست الثّورة مرتبطة
بالنّزاعات الطّائفيّة والمذهبيّة المرائية والّتي تخفي في مضمونها كلّ الحقد والكراهية.
والثّورة تطلّب عقلاً مستنيراً يغزو جهل الإنسان ويحاربه حتّى الموت من أجل الحياة.
_________________________________________________ |