لم تعرف البشرية فى كل تاريخها شهداء كشهداء المسيحية من حيث اعدادهم التى لايمكن ان تحصى ، بل وايضا من حيث حماستهم وحرارتهم وايمانهم وفرحهم فقد كانوا يعانقون الموت فى فرح ومسرة اذهلت معذبيهم ومضطهديهم فوصفهم بالجنون احيانا وبالجهل احيانا اخرى ، ولقد كان نيرون وبعض الاباطرة يصرح بدهشتة من عناد هؤلاء القوم الذين يقابلون العذاب والموت بابتسامة !!
ولهذا سخر بعض اعداء المسيحية من ظاهرة الاستشهاد ، وفسروها فى سذاجة وسطحية ظاهرة بانها نوع من الانتحار تحت ظروف قاسية . ولكن الذى يقرأ التاريخ فى امعان ، ويحيا مع هؤلاء الشهداء فى افكارهم ويحلق معهم فى سماوات مشاعرهم الممتازة ليدرك ان اقبالهم على الاستشهاد بحمية وعذوبة كان بدافع تيار جارف من عواطف الاخلاص لدينهم والوفاء لمسيحهم شوقا الى رؤياه بالعيان والاستمتاع بحضرته . وذلك كله تعبير صادق عن عاطفة روحانية غنية بإيمان جبار ، اروع صدقاً من العيان واعمق من كل بيان .
انظر على سبيل المثال فى مافعله القديس اغسطينوس اسقف انطاكيا المشهور بالثيئوفوروس اى ( حامل الله ) كيف قابل الحكم الذى اصدره عليه الامبراطور تراجانوس بان يُقيد ويُرسل موثقاً بالسلاسل الى رومية وهناك يُطرح للوحوش الضارية . فبعد ان شهد للمسيح امام الامبراطور بشجاعة دونها شجاعة الاسود ، تقبل حكم الامبراطور عليه فى سعادة نادرة . ومن فرط فرحة ، اذراى السلاسل التى سيقيدونه بها ،جثا على ركبته وانحنى على تلك القيود وقبلها بفمه شاكراً الله الذى حسبه أهلاً لان يموت شهيداً من اجل اسمه .
ولما علم ان المسيحين فى روما سيبذلون مساعيهم لانقاذه من الموت ، كتب اليهم رسالة مطولة يطلب فيها منهم ان لا يعيقوه عن اغتنام هذه الفرصة الموتية ليترك العالم ويذهب الى السماء . ومما قاله فى هذه الرسالة " اخشى ان تسبب لى محبتكم ضرراً . فاذا اردتم ان تمعو الموت عنى فلا يعسر عليكم ذلك ، وبه تعلمون مرضاتكم ، غير ان فضلكم هذا سيكون مؤلماً ومحزناً وثقيلاً جدا ً لدى . فاذا خسرت الاستشهاد الان بسبب صنيعكم فسيعود فيما بعد مستعصياً الحصول عليه من جديد . فلا اريد قط ان ارضيكم ارضاءً بشرياً ، بل اروم رضى الله وحده فلربما لا اصادف فى المستقبل هذه الفرصة المغبوطة مرة اخرى ان ابلغ الى الهى بواسطة سفك دمى ... فاسمحوا لى اذاً ان اوذبح حيث اعد المذبح ، بل استمدوا لى بدعائكم الباس الواجب لى لكى اقاوم الحروب الباطنة واطرد الخارجة . واستعدوا ان توجدوا كلكم حاضرين حول المذبح مشاهدين ذبيحتى ، وهكذا تصورون جوقة حسنة العبادة مؤلفة منكم لكى ترتلوا التسابيح المبهجة ذات الشكر والمديح للاب الالهى ويسوع المسيح ، لانه تنازل ان يجتذب من المشرق الى المغرب اسقف انطاكيا ( يقصد ذاته ) مقيداً من بلاد سوريا الى مدينة روميه ليعترف هناك باسمه العظيم ويصبح ضحية مذبوحة من اجله . فياله من حظ سعيد ونصيب مغبوط ، وهو ان يترك هذا الدهر ويحيا لله الى الابد ... انى اشتهى الاستشهاد لكى اظهر ذاتى مسيحياً لا بالقول فقط بل بالفعل ... انى ماض للقاء المنون بفرح ورضى تام ... اناشدكم بألا تودونى مودة تؤول لمضرتى . دعونى اصير مأكلاً للاسود والدباب . ان هذا اسهل طريق للوصول الى السماء وانما اتوسل لله باشواق بان لاتترك تلك الوحوش من جسدى شيئاً على الارض حتى لاتكون فضلات جسمى ثقيلاً على احد ، عندما تكون روحى قد بلغت الراحة الابدية ، واكون تلميذاً صادقاص ليسوع المسيح ،فتضرعوا اذن عنى لدى يسوع المسيح كى اصير قرباناً وذبيحة بافتراس الوحوش لى ، حباً به ... سامحونى ياخوتى لانى اتكلم على هذا النحو واننى اعلم جيداًالخير العظيم الذى ارجوه واتوق اليه ... انى ان افنتنى النيران وحولتنى رماداً او علقت على صليب متجرعاً كأس ميتة بطيئة ، لو أُطلقت علىّ النمور الكاسرة والاسود الضارية وكسرت عظامى وهمشت اعضائى وسحقت جسدى برمته ... فانى محتمل كل ذلك بفرح . بشرط ان احظى بيسوع المسيح لانه ملك العالم باسره . فان الموت لى لاجل يسوع المسيح افضل من ان املك كل اقطار الارض لان قلبى تائق الى من مات لاجلى ونفسى مشتاقة لمن انبعث من المو لاجلى " .
اليست هذه العبارات النارية تعبيراً عن حب عظيم فى المسيح ووفاء لصنيعه الالهى ،واظهارا لولاء شديد لمبادئه ، وايماناً عميقاً من اعمق طراز بالحياة الاخرى وانها افضل وابقى من الحياة الدنيا ؟
هل يمكن ان تصدر مثل هذه الكلمات عن ياس قاتل ، ورغبة فى انتحار كما يدعى قوم دون فهم صحيح للبواعث النبيلة التى كانت تحرك شهداء المسيحية نحو الترحيب بالاستشهاد والاقبال عليه كما يقبل الانسان على امر حبيب الى نفسه يحصد من ورائه اجمل الثمرات ؟!
ومن بين هذه الصور الرائعة المشرقة القديس بوليكاربوس اسقف ازمير الذى لماقبض عليه الجند لم يحزن مع انه كانت قد سنحت له فرصة للهرب ، بل على العكس انه رحب بالجند وقدم له طعاماً ليأكلوا ثم جثا على ركبته يصلى شاكراً الرب الذى شرفه بالجهاد الاعظم حتى ذهل الجند من وقاره وهدوئه واتزانه وشجاعته ، وكانا يتطلعون الى وجهه تعلوه سحابة طافحة بالاسرور والفرح .
ولما ساقوه الى الوالى رق الوالى فى مبدأ الامر لشيخوخته ووقر لحيته البيضاء ثم سأله ان يكفر بالمسيح ، فأجابه القديس على الفور : لقد عشت منذ صباى نحو ستة وثمانون سنة اخدم المسيح سيدى . وفى كل هذه الدة لم يصيبنى منه اذى يكدر خاطرى ويزعجنى ، بل نلت منه كل اشفاق واحسان . فلماذا تأمرنى ان اشتم مثل هذا المحسن ؟ !
وهذه صورة اخرى من صور الوفاء . ان القديس يرحب بالموت لانه يعتبر انكاره للمسيح خيانه لا تليق به اذ كان كله وفاء لمن احبه واحسن اليه ورعاه بعنايته الالهيه منذ ان كان صبياً صغيراً .
ين اذن هذه الروح العظيمة روح الاخلاص والوفاء من روح الانتحار وما يملؤها من يأس قاتل ومن تمرد على الحياة وعلى كل القيم الروحية والاخلاقية ؟ !
ولقد كانت الكنيسة كلها بكل طوائفها ووظائفها تقف وراء المقبوض عليهم فى فى السجون تمهيداً لاستشهادهم ، تشجعهم لبسالتهم وعمق ايمانهم ، وتعزيهم عما هم فيه من ضيقات والام . ولعل من ابلغ الامثلة على ذلك ماكتبه القديس كبريانوس اسقف قرطاجنة قبل استشهاده للمحبوسين فى السجون تمهيداً لقتلهم ، قائلاً لهم : " وكأننا محبوسون معكم ، لاننا بالقلب معكم ، نشعر مثلكم بما انتم مدينون به من الشرف لعطايا السيد المسيح ، والمحبة التى تجمعنا نفتخر بافتخاركم ، فان محبتى لكم تحملنى الى حيث يحبسكم اعترافكم ... ان القيود التى فى ايديكم وارجلكم ليست سلاسل من حديد ، بل هى جواهر ذهبيه تزينكم ... فى اوقات الاضطهاد تغلق الارض امامنا ، لكن السما تفتح ... الموت يغلبنا ، لكن الخلود ينتظرنا ... العالم يتنحى عنا ، لكن الفردوس يفتح ابوابه لنا ... تنتهى هذه الحياة القصيرة ، اتبدأ الحياه الابدية ، فيا له من شرف ... يا له من سلام ... يا له من فرح ، ان نرحل هكذا فى مجد وسط الاضطهاد والضيق والهوان . ونغمض اعيننا عن العالم والبشر ، لنفتحها هنا فى الفردوس امام وجه حبيبنا القدوس " .
واذا كان لكل العالم المسيحى شهداء فان نصيب قبط مصر كان دائما اكبر نصيب . وجميع المؤرخون يشهدون ان عدد شهداء القبط زاد على كل شهداء العالم ، وان كنيسة مصرصدرات الى السماء عدداً من الشهداء اكثر كثيراً من اى عدد صدرته كنيسة اخرى فى العالم . فلقد كان القبط اكثر شعوب العالم تديناً ، اخذو الدين ببساطة واخلاص وعمق وعاشوا المسيحية فى حياتهم ، ودخلوا الى اعماقها ودخلت هى الى اعماقهم وغاصت فيهم جداً حتى اصبح يسهل عليهم تمزيقهم ونقطيعهم ولا يسهل عليهم ان يتنازلوا عن عقيدة من عقائدها . احبوا المسيح وهاموا فى حبه وغرقوا فى ميحطات واسعة وعميقة من تاملات وعبادات جعلت الكثيرين منهم يقصدون الى حياة الهدؤ فى الصحارى والقفار ليكون لهم وقت مناسب ليغرقوا فى تلك التاملات وهذه العبادات .
لذلك كان الملوك والاباطرة الوثنيون يرون اقباط مصر " راس الحية " التى تقض مضاجعهم وتهدر سطوتهم الامبراطورية ، وكانوا يشعرون ان لا سبيل للقضاء على الحية الا بقتل راسها الظاهرة فى مصر ، لذلك كرهوا القبط وصبوا عليهم جام غضبهم وعمدوا الى الانتقام منهم والتنكيل بهم ، بل ان دقلديانوس جاء الى مص بنفسه ليشلع شهوته الانتقامية وامسك السيف بنفسه وركب على جواده واخذ يقتل بيده وبثوره جنونية كل من يلقاه من المسيحيين حتى يغوص حصانه فى بحر من دماء المسيحيين . وبعد ان قتل الافاً منهم حدث ان كبا حصانه فتلطخت ساقا الجواد بدماء الشهداء السائلة على الارض ، ولما كان قد تعب من حمل السلاح وذبح المسيحين راى انه قد وفى بالقسم الذى اقسمه ،وكف عن القتل . وقد قدر المؤرخون عدد الذين قتلوا فى ذلك اليوم وحده باكثر من ثمانمائة الف مسيحى ... لذلك اعتبر القبط ذلك اليوم يوماً مشهوداً فى تاريخهم فبدأوا به سنتهم القبطية بعد 284 سنة من التاريخ الميلادى ، وسمى لذلك تقويمهم بتقويم الشهداء مرادفا للتاريخ القبطى .
ليس هذا معناه ان عصر الاستشهاد بالنسبة للقبط بدأ عند سنة 284 لميلاد المسيح فالحق انهم عانوا الاضطهاد منذ فجر المسيحية تحت حكم اباطرة الرومان ابتداء من عهد نيرون . ومار مرقص نفسه وهو كاروز المسيحية فى مصر مات شهيداً او كان اول شهيد فى مصر ، والشهداء من بعده كثيرون من كل درجات الاكليروس والشعب .
معنى الاستشهاد
يقال فى اللغة العربية " استشهد " بمعنى : قتل فى سبيل الله . هذا هو المعنى الاصطلحى . اما المعنى الاشتقاقى الفقهى فالاستشهاد مشتق من الشهادة ، واستشهد بمعنى سئل الشهادة او طلب للشهادة والشهادة هنا هى الشهادة للايمان الذى يدين به ويذود عنه .
وشهداؤنا سئلوا عن ايمانهم فجهروا به واعلنوه فى قوة وفى جرأة مذهلة وكانت شهادتهم للحق كرازة للحكام وامن سمعوا شهادتهم . وكثيراً ما ربحت شهادتهم لملكوت السماوات جموعاً امنوا بالمسيح وطلبوا ان يموتوا هم ايضاً شهداء .
هذا هو اذن معنى الاستشهاد ان يشهد المسيحى للحق الذى يؤمن به ويدعوا الاخرين الى ان يؤمنوا به ، شهادة حق فى اخلاص للحق وحباً له ، ، شهادة صدق من قلب طاهر مستند الى الحق ذاته . وهو شهادة بشرف الحق الذى يعتنقه فى فخر واعتزاز . وقد كان الشهداء فخورين بدينهم وبتبعيتم للمسيح . ولم يكن الصليب عندهم عاراً وانما كان لهم عزاً وفخاراً ، رسموه على وجههم وايديهم .
ليس عبثاً رسموا الصليب على ايدى الاطفال الرضعان لانه كان على يد الطفل اعلاناً عن تبعيته للمصلوب اذا عجز لسان الصغير عن الكلام ، وكان الوالدان لا يعرفان فى زمان الاضطهاد مصير اطفالهما بعد استشهادهم فكانا يتركان على يد الطفل وشم الصليب علامة مسيحيته فاما مات شهيداً بها او عاش مسيحياً بها اذا اتيحت له الحياة وهذا كله معناة ان الاستشهاد كان عملاً مجيداًيقبل عليه الاباء ويشجعون عليه اطفالهم وكم قرأنا عن ام قبطية كالام دولاجى كانت تطلب ان يموت اطفالهم قبلها لتطمئن على مصيرهم ولذلك ذبحوا اولادها على حجرها وكانت سعادتها الروحية تغطى على عواطفها البشرية الانسانية .
والاستشهاد معناه ايضاً وفاء بالمعروف لان انكار المسيح خيانة والاعتراف به وفاء بحبه وتقدير لحبه وتكريم لدينه .
والاستشهاد معناه ايمان بالمسيح ودين المسيح وايمان بالله ووجوده وايمان بالاخرة وايقان بالحياة بعد الموت . ولولا الايمان بالقيامة والدينونة الابدية لما كان الشهداء يجدون مايدفع بهم الى قبول العذاب فى سبيل ايمانهم .
دلائل الايمان :
لقد برهن الشهداء على ايمانهم بالمسيح ، والابدية بهذه الابتسامة الحلوة التى كانت ترتسم على وجوههم وهم يقابلون كل انواع التعذيب والموت حتى لقد قال مرة الامبراطور نيرون : عجباً لهولاء القوم لا يخافون الموت !
وبرهنوا على ايمانهم بهذا الهدوء وهذا السرور الذى كان يدفعهم الى الترانيم والتسبيح والترتيل وهم يزفون الى الاسود الجائعة ، والوحوش الكاسرة ، والنيران المتأججة .
وبرهنوا على ايمانهم بذلك الصبر العجيب عى الالام المرة التى قاسوها . وفى رسالة اهل ازمير فى القرن الثانى فى صف هذا الصبر الجميل قالوا : ان المعترفين ضربوا ضرباً عنيفا ًبالسياط حتى ظهرت عروقهم واعصابهم وكانوا فى معمان هذا العذاب المهول ثابتين بلا ضجر فى حين ان الحاضرين كانوا ينفرطون شفقة عليهم فما كنا نسمع من جند المسيح هؤلاء ادنى صراخ او انين بل بالعكس كنا نشاهد الدماء تجرى من جراحهم فى غزارة ومع ذلك فما كانت الوانهم تتغير . كانوا ينظرون مفاصلهم واطرافهم تتمزق بدون ارتياع . تقدموا للعذاب بسرور وابتهاج وتألموا وهم صامتون ، لم يفتحوا افواههم الا ليباركوا الرب ويسبحوه كأنهم ليسوا فى اجسادهم اومنزهون عن الالام لانهم اصغوا بالحرى الى صوت الرب يسوع يناجى قلوبهم . ومن فرحهم بحضوره ازدروا بجميع العذبات ، وعدوا نفوسهم سعداء لاجتناب العذبات الخالدة فى الابدية باحتمال عذاب لبعض دقائق .
والنيران التى كانوا يقاسونها كانت تستبين برداً بازاء تلك النيران التى لا تطفأ الى الابد ، لان عيون قلوبهم كانت شاحصة الى الخيرات الفاءقة ... خيرات لم تراها عين ولم تسمع بها اذن ولم يدركها قلب بشر .
واما وسائل تعذيب الشهداء فكانت متنوعة بقدر ماكانت قاسية . كان من بينها الضرب والجلد حتى يتكشف اللحم ويسيل الدم ، وكان من بينها الالقاء للاسود الجائعة والوحوش الكاسرة او النيران المتاججة ، ومن بينها انزال الشهيد فى برميل كبير من الزيت المغلى والقار ، ومن بينها السلخ ونزع الاظافر والكى بالحديد فى مناطق مختلفة من الجسم ، ومن بينها تقطيع الاعضاء عضواً عضواً ، ومن بينها تمشيط الجسم باظفار من حديد ومده على صفائح محمية ، وطلى الجسم بالعسل وربط اليدين وراء الظهر وبسطه فى الشمس المحرقةليقاسى حرارة الشمس ولدغ النحل والزنابير . وكان من بينها ربط اليدين والرجلين بغصنى شجرتين متقارتين مع ضم الغصنين بقوة فاذا ما ترك الغصنان لوضعهما الطبيعى تمزق جسم الشهيد الى اثنين ، وكان من بينها ايضاً وضع الشهيد فى همبازين وهو دولاب يتحرك نصفه الاعلى فى اتجاه ونصفه الاسفل فى اتجاه عكسى وبين نصف الدولاب عدد من سكاكين حادة . وكان الشهيد يوضع بين نصفى الدولاب الذى كان يدار فكان جسد الشهيد يتمزق ارباً ارباً ويسيل دمه فى كل الاتجاهات وكانت هناك وسائل اخرى كثيرة منها : الصلب فى وضع عادى او فى وضع مقلوب ، وكان اسهلها جميعاً قطع الراس بالسيف او الفاس اما على حجر او على الهواء .
هذا كله احتمله الشهداء بصبر ليس له نظير ، وكانت عيونهم شاخصة الى السماء هذه السعادة الروحية هى التى كانت تعلو بهم فوق الالم وترفعهم فوق شر معذبيهم ومن وقت لاخر نقرأ عن بعض المعذبين يثوب الى رشده كما فعل اريانوس والى انصنا الذى بعد ان قتل الالوف مات هو نفسه شهيداً بعد ان راى صبر الشهداء على المكاره وتحقيق من صلابة عودهم وقوة ايمانهم .
شهداء فى وقت السلام :
ولئك الشهداء عاشوا فى وقت كان للايمان اعداؤه الظاهريون ، واما فى اوقات السلام فهناك ايضاً شهداء :
شهداء يحيون بايمانهم على الرغم مما يحيط بهم من ضنك ومن ضيق ومن الم ومن مرض ومن ظروف قاسية تثير الشكوك .
شهداء يحيون بمبادئهم على الرغم مما يعترضهم فى سبيل احتفاظهم بمبادئهم من متاعب من الاصدقاء والاعداء ، من الاقارب والاباعد على السواء .
شهداء يحيون بطهارتهم على الرغم من مثيرات الخطيئة ونداءات الجسد الترابى والشهوات البدنية.
نحن نغبط الشهداء ونكرمهم لانهم صمدوا لانهم امام الاغراءات والمثيرات وامام العذابات والاضطهادات .
ولكن الغبطة ايضاً تنتظر الشهداء فى عصر السلام ، الذين يصمدوا امام كل اغراء وهو نفسانى وشهوة ردية .