ليس بمقدور أحد أن يعرف الله وهو فوق في بُرجه العاجي… سقط زكا عن عرش النعمة عندما استسلم لخطيئة السرقة واستغلال المنصب والنفوذ والثراء
غنيٌّ إسمُه زكّا حصّلَ أموالهُ من السرقة والظُلم والفساد واستعباد النّاس، سمِع بيسوع فأراد أن يعرفه معرفة شخصيّة، ولمّا فعل، تغيّرت حياته ونال الخلاص. رأى يسوع فتغيّرت حياته (لو19\1-10)
1- أراد أن يعرف
سمع زكّا بيسوع كغيره من الناس ولكنّه لم يكتفِ بِما سَمعَ، بل” أراد أن يرى مَن هو يسوع “(لو19\3)، أي أن يعرفه معرفة شخصيّة. هناك معرفة عن طريق السّماع، ومن خلالها يُقدَّم للسامعين موضوع الإيمان، ومعرفة عن طريق الإختبار، يدخل بواسطتها الشخص في علاقة حوار مُحِبّ مع الآخر. المعرفة الأولى نَظريّة والمعرفة الثانية شخصيّة، والإيمان يفترض الإثنتين.
المعرفة النظريّة مهمّة لأنّها تُشكّل القاعدة الأولى للإيمان، “فالإيمان يأتي أولاً من السّماع”(روم10\17)، سماع كلام الله الذي يَنقُلُه لنا الإنجيل وتُنادي به الكنيسة وتخدمه، ولكن المعرفة النظرية وحدها لا تكفي، فالإيمان بحاجة إلى أن يُعبّر عن ذاته في علاقة المحبّة التي تربط الإنسان بالله والإنسان بأخيه الإنسان. يقول المطران جورج خضر:”العقيدة لك، أمّا قلبُك فللجميع”، وبمعنى آخر أنَّ ما نعتقده لا قيمة له إن لَم يجعل منّا آداة محبّة نطال من خلالها الله والإنسان في الوقت نفسه.
2- انزل بسرعة
دعا يسوع زكّا إلى اختبار العلاقة الشخصيّة معه:” انزل بسُرعة، فعليَّ أُن أُقيم اليوم في بيتك”(لو19\5). “إنزل”! تسلّق زكّا جُميّزةً ليرى يسوع فإذا بِهذا الأخير يدعوه إلى النزول. ليس باستطاعة أحد أن يرتفع ما لَم ينزل أوّلاً، أي يتواضع ويقبل دعوة الله الموجّهة إليه؛ فالحكمة الإلهية لا تُعطى للمُتكبرين، بل للصغار المتواضعين(لو1\46-56).
ليس بمقدور أحد أن يعرف الله وهو فوق في بُرجه العاجي، بل عليه أن ينحدر أوّلاً ليضع أساسات البُرج التي تُمكّنه من مُعاينة وجه الله والإرتقاء مُجدّداً، وهذه الأساسات ليست سوى التواضع. يقول أحدُ الآباء القديسين:”هل ترغب في الارتفاع؟ أبدأ بالنزول. انت تخطط لبرج يخترق الغيوم؟ ضع أولا الأساس من التواضع”.
النزول في حالة زكّا هو حالةُ استعدادٌ للصعود. سقط زكا عن عرش النعمة عندما استسلم لخطيئة السرقة واستغلال المنصب والنفوذ والثراء لابتزاز الناس واستمالتهم وإخضاعهم والتسلّط عليهم، ولا سيّما الفقراء والضّعفاء الذين لا حول لهم ولا قوّة. ولكن قبوله “بسرعة” الدعوةَ التي وجّهها إليه يسوع غيّر حياته بشكل جذري. لقد غيّر اللقاء مع يسوع أهدافه وأولوياته وبالتالي حياته، فأصبح الإنسان بالنسبة إليه أَخاً بعد أن كان فريسةً، والله هدفاً بعد أن كان عدوّاً، والمحبّة غايَةً. وقد عبّر عن ذلك بقوله:” أُعطي الفقراء نصف أموالي…وإن كنت قد ظلمت أحداً فإني سأرده إليه أربعة أضعاف”.
3- يوم الخلاص
يقول القديس أغوسطينوس:” لا يسعُك أن تَعرِف كيف تُنهي حياتك، وإنّما بإمكانك أن تحيا بطريقةٍ تُنهي بِها حياتكَ مُطمئِنّاً” (راجع خواطر فيلسوف في الحياة الروحية، ص375).
رُبَّ قائلٍ :” ما الذي ينقُص هذا الإنسان، ولَدَيه كلّ ما يتمنّى المرء أن يحصُل عليه، إذ “كان رئيساً للعشّارين وغنيّاً”؟(لو19\2) وهذا صحيح. لقد كان رئيساً غنيّاً، ولكنه كان يبحثُ عن الطُمأنينة، وهذه الأخيرة يُوفّرها فقط الضمير المُستنير بنور الإيمان بالله والثابت على الحقّ، والذي يدفع صاحبه إلى عمل المحبّة والخير والصلاح؛ فالحياة لا تُقاس بمقدار ما نملك ونتقلَّد من مراكز، بل بمقدار ما نُحبّ ونشهد للحقّ، ونصنع من خير وصلاح. هذا ما فهمه زكّا، فتخلّى عن رِباط الشرّ الذي كأن يأسُره ويفصل بينه وبين الناس، وقام فصحّح مسيرته معهم (لو19\8). ولأنّ زكّا تجاوب بسرعة مع دعوة يسوع، نال الخلاص بسرعة:” اليوم صار الخلاص لهذا البيت”(لو19\9)، وما ذلِك إلاّ “لأنَّ ابن الإنسان، أتى ليَبحث عن الهالك فيُخلّصه”(لو19\10).
هذا ما يجدر بنا أن نعيَه، فقلبنا القلق لن تُطمئنُه خيرات الأرض ولا أمجاد الدنيا وبهارجها، بل الله وحده القادر على تهدئة قلقنا وطمأنة قلوبنا، وتحريرنا ممّا يأسرنا، فنرتاح فيه ويرتاح فينا.
صلاة
أُدعُنا يا ربّ إليك فنسرِع إلى لقائك. نُشرّع أمامك أبواب عقولنا وقلوبنا، فنعرفك ونُحبُّك ونُحبَّ الآخرين من أجلِك، فيطمئن قلبنا ونخلص. آمين