في لحظة من التوتّر والغضب والتنهّدات المتتالية لم أكن أتصوّر أنّ الله كان يهيّئني لمعجزة ما! هل أرسل الله ملاكه أم ماذا؟
فيما كنت أجلس في قاعة الإنتظار داخل عيادة طبيب الكلى، لم أتوقع أن فترة الإنتظار المملّة ستتحوّل إلى لحظات سأحفظها بقلبي طيلة سنوات حياتي.
مع مرور كل دقيقة إضافيّة كان مستوى التّوتر والغضب في ارتفاع دائم، كيف لا وقد كنت أولى الواصلين إلى العيادة وها أنا أنتظر منذ ساعة تقريبًا الدّخول لرؤية الطّبيب ومعرفة ما إذا كنت لا أزال أعاني من وجود حصوة في كليتي.
بينما كنت أتذمّر أمام الجميع لطول الانتظار من خلال إصدار التّنهدات المتتالية أو تحريك رجلي بطريقة تعبّر عن غضبي دخلت القاعة إمرأتان.
الأولى تبدو أكبر سنًّا من الثانية. إنها والدتها ظننت في نفسي. منظر الشّابة كان غير مألوف. أعتقد انّها تعاني من مرض ما. جسمها بدا نحيلًا جدًّا لدرجة أنّها أشبه بهيكل عظمي متحرّك.
كان شعرها القصير ينسدل فوق وجهها النّحيل. عند رؤيتها سارعت إلى تفسير حالتها الصّحية بالقول إنّها تعاني من مشكلة في نظامها الغذائي لا بد أنّها تعاني من الأنوركسيا.
خلال إنتظاري الدّخول إلى الطبيب سمعت السيّدة تقول:”لقد أعطيتها كليتي.”
سارعت إلى سؤالها ما إذا كانت هي والدة الشّابة فأتى الجواب إيجابًيا بكل فرح واعتزاز.
إغرورقت عيناي بالدّموع… كيف أسارع بالحكم على الفتاة بأنها مصابة بالأنوريكسيا!!! كم كنت مخطئة. إطلاق الأحكام على السّيدتين إنقلب إعتزازًا واحترامًا لتضحيّة الأم وألم الإبنة.
بالحقيقة لا أعلم ما الذي جعلني أبكي، هل لأن أبي توفي بسبب سرطان الكلي أو لتواجدي في غرفة مع أشخاص يحملون في قلبهم الألم وعلى وجوههم ترتسم أجمل الإبتسامات.
اقتربت من الأمّ التي سردت على مسمعي رحلة ابنتها مع الألم. هذه الشّابة التي سارعت بالحكم عليها عانت كثيرًا من تمدد الأوعية الدموية. نجت من سكتتين في الدّماغ وهي لا تملك سوى كلية واحدة. هذا وواجهت الشّابة صعوبة في تناول الطعام مع كل هذه القضايا الصّحيّة. كشفت لي الشّابة النّدوب التي ارتسمت بشكل أبدي على جسدها الضّعيف إثر الألم والعلاجات . هذا وقالت لي الشّابة صراحة إنّها لا تخجل أبدًا من مظهرها.
كان حضور المرأتين يتميّزّ بهالة من النّور والسّلام الدّاخلي. من الواضح أنهما تعرفان جيدًّا هدفهما في هذه الحياة، وأنّهما ابنتا الملك السّماوي.
أنا على ثقة بأن الله يضع في حياتنا أشخاصًا معيّنين لسبب معيّن. كنت على وشك فقدان إيماني بالإنسانيّة. فبعد العمل لثلاث سنوات برعاية أطفال يتعرّضون لأبشع أنواع التّعنيف باتت نظرتي للنّاس قاسيّة كالقلوب التي عنّف أصحابها الأطفال الأبرياء.
ففي كلّ مرّة أقرأ فيها في عناوين الصّحف عن ضرب طفل وطعن الآخر يزداد يأسي من هذا العالم ونفوري من البشر.
خلال ذاك اليوم وفي قاعة الإنتظار أراد الله تذكيري بوجود أشخاص طيّبين في هذا العالم. أشخاص تغلّبوا على الألم وفي قلوبهم طاقة قادرة على زرع السّلام والقوّة في داخلهم لدرجة أنّهم قد يكشفون لك عن جروحهم دون خجل لا بل بكل فخر.
لقاء الأم وابنتها علّمني إنه عليّ تخطّي الصّلبان الصّغيرة التي قد أواجهها في يومياتي مثال حصوة في الكلي لا تهدد حياتي وتحوّل انتظاري من ملل توتّر إلى معجزة اللقاء بالله.