تشتت الذهن في وقت الصلاة
للأب + بطرس الزين .
إنها مشكلة مصلين كثيرين أنهم لا يقدرون على استجماع ذهنهم والتركيز في مجمل صلواتهم. اي انهم لا يقدرون على إقامة صلاة دافئـة موصولة، لأن ذهنهم يتقطع بأفكـار تهاجمهم من دون استئـذان.
ولعل بعضًا من الملتزمين المبتدئين، اذا قـرأوا سير القديسـين وتعاليمهم، يكتشفـون ما يطمحـون اليه، ويرهقـون أنفسهم، من دون حكمـة او تمييـز، بمحاولـة تطبيقـه. تراهم يريـدون الوصول الى القمـم بقفـزة واحدة، من دون ان يرتقوا سلّم الجهاد او يدخلوا من "الباب الضيق". وهذا ما يقودهم، في أحيان كثيرة، الى خيبة فيأس ظاهـرين، او الى التشكيك. اذ كيف غيرهم استطاع ان يصل الى قامـة عملاقـة في محبة اللـه، وهم لا يستطيعون؟!
ما يجب أن نعيه دائما في قراءتنا سيرة قديس أريد منها الإفادة والقدوة، أن حياة المخلصين في كل جيل كان لها بدء، وأن كلّ مسيرة لا تخلو من هبوط وصعود. وان نعي تاليًـا أن احدًا من أركان القـدوة لم يدّع كمالاً في الأرض، او نسب فضائله الى ذاتـه. فالحياة المسيحية جهاد هي. والمخلصون، اي الذين عرفوا في قلوبهم أن اللـه هو فاعل الصلاح وحده ومكّـن البشر منه، هم الذين يقـدرون وحدهم على سلوك طـريق القداسة البهيّ.
أما الصلاة فهي عصب الحيـاة في المسيـح. القديسون جاهدوا جهادا موصولا لينالوا قربى الله. وجميعهم طرًا كان ذهنهم، في أحيان كثيرة، يشرد. وهذا ما عبّر بعضهم عنه في تعاليم رصينـة، وهي قدوتنا في هذا المسعى. نقرأ ما قالـه القديس يوحنا السلّمي في كتابه "سلم الفضائل": "صارع فكرك بلا انقطاع وكلما شرد طائشًا عد واجمعه. لأن الله لا يطلب من العائشين في الطاعة صلاة خالية من شرود الذهن. فلا تقلق اذًا إن اختُلس انتباهك، بل تشجع واسترجع دائمًا ذهنك اليك، فإن الملاك وحده لا يُسلب انتباهه" (المقالـة 4/92). ومعنى هذا الكلام الواضح أنّ المؤمن معرّض، في هذه الحيـاة، لأن يختلس انتباهـه اذا ما وقف امام الله مصليًا. ولكن المهمّ، في مسعاه، ان يبقى واعيًا حضور الله، ويعمل، بسرعة وإصرار جدّيّين، على استرجاع ذهنـه، وألا يوقف الصلاة.
في سير بعض القديسين المترجم الى العربية يذهلنا، على سبيل المثال، أن القديسين سرافيم ساروفسكي ويوحنا كرونشتـادت اللذين عرفا، مرّة، برودة في الصلاة، كانا مُصرَّين على استرجاع نعمة الدفء التي ذاقاها في مسيرتهما الطاهرة. فسرافيم عندما شعر بأن صلاته بردت صعد على صخرة كبيرة وأقام الف يوم، حتى يعيد له الله ما خف وهجه (حرارة صلاته). ويوحنا بقي سنـة كاملـة لا يشعر بشيء في صلاته، ولكنـه لم يوقف قانونه يومًـا واحدًا.
ان نصلي دائمًا، وباصرار، هو ما يعطينـا ان ننتبه لحضور الله الحـيّ ولمـا نقولـه في أوان الرضا. ما علينا ان نثـق به أن الله يتنـازل الينا في الصلاة. وانـه يجبر عجزنا ويساعدنا بروحـه القـدوس الذي ينقـل كلماتنا الى مسامع الله الآب بطريقة لائقة. هذا ما عبّر عنه الرسول بولس بقولـه: "وكذلك فإن الروح ايضا يأتي لنجدة ضعفنا لأننا لا نحسن الصلاة كما يجب، ولكن الروح نفسه يشفـع لنا بأنّات لا توصف" (رومية 8: 26).
ثمّة امران في الروحانية الشرقيّة عن أسباب الصلاة الباردة المرتبطـة بضعفنـا البشـري. الاول أن الله يحجب ذاته لأنـه يعـرف إمكاناتنـا ويريدنا أن نكون في حال أفضل مما نحن عليه في هذا الوقت. والأمر الثاني أن الله لا يقبل ان يصلي له من كان مصرًا على خطاياه، فيحجب نفسه عنه. احتجاب الله، وفـق الأمر الأول، تربية. اما اذا كانت خطايانا هي العائق، فالله يدعونا - عبر احتجابـه - الى التوبة. فالصلاة، في الأخير، ليست ترداد كلمات. انها توافق القول والحياة. وفي كلا الأمـرين يرحمنا الله باحتجابه لنبطل كلّ غفلـة او استهتار او عناد، ويزداد حبّنا له ونطلبه بجدّية وطاعة كبيرين.
يبقى أن نعرف أن الله لا يغيب ابدًا اذا صلينا له. ولكن حضوره المخلّص قد يكون سببًا لإدانتنا اذا كنا متهاونين. يحجب نفسه حتى لا يدين، وحتى نعي أن حبّنا الذي نقوله كلمات يفترض صدقه قداسة حياة.
من يطلب دفء الصلاة دومًا يحتاج الى صبر جميل والى شجاعة كبيرة وصدق بليغ. فطلبه معناه انه يريد استباق الأبدية التي جمالها لا يوصف وحرارتها كاملة، والتي هي الحقيقة الأخيرة التي يمنّ الله بها على المخلصين في الوقت الذي يرى هو أنّ استعدادهم قد اكتمل....
يقول القديس باسيليوس الكبير:
+ ينبغي ألا نقول في كل صلاة ما نقوله في الأخرى ولا نقول صلاة واحدة محفوظة في سائر الأوقات التي نجتمع فيها، لأن النفس تمل وتقلق من التكرار. فينبغي أن نغير الكلام حسب حاجة نفوسنا فيكل ساعة ونقول في كل وقت ما يليق به من الصلاة
والقديس يوحنا كرونستادت
+ إذا بدأت الصلاة ولاحظت أن قلبك غير مستجيب للصلاة وقد شملته برودة، أوقف الصلاة وحاول أن تدخل الحرارة في قلبك، إما بذكر خطاياك واعترافك بها، وأما بذكر إحسانات الله عليك بالرغم من جحودك وشرودك الكثير
.......................