الحضارة المسيحيّة، قصّة حبّ بين الله والإنسان
إنّ الحياة الإنسانيّة سلسلة من الثّورات المستمرّة سواء أكانت ثورات فكريّة لتبديل مفاهيم ترهق الإنسان وتحدّ من نموّه، أو أخرى اجتماعيّة تهدف إلى انتشاله من جهله وقوقعته على ذاته، أو أخرى تبتغي الانعتاق من أغلال مغتصب للوطن أو التّحرّر من نير طبقة حاكمة. ولقد خاض الإنسان عبر التّاريخ ثورات عدّة، بدّلت مفاهيم عدّة وساهمت في تطوير الحياة الإنسانيّة اقتصاديّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً... إلّا أنّ الجوهر الإنساني ورغم كلّ التطوّر المحيط به، ورغم كلّ التّقدّم الّذي وصل إليه تراجعت إنسانيّته، ممّا حوّل ثوراته إلى ردّات فعل غير مدروسة، ظاهرها تحرّر وأمّا مضمونها فمدفوع بردّات فعل إنفعاليّة لا ينتج عنها سوى المزيد من الهلاك الإنسانيّ.
بعيداً عن مفاهيمنا الشّخصيّة للثّورات وبعيداً عن كلّ الفلسفات الّتي نتجت عن خبرات الإنسان عبر التّاريخ، لا بدّ أن نفهم وندرك بتأنٍّ كيفيّة السّلوك في حياتنا المسيحيّة عملاً بقول القدّيس بولس الرّسول: " فمن هو في المسيح هو خلق جديد: لقد ذهب العتيق وصار خلق جديد" (2 كور 17:5). فالمسيح النّازل من السّماء والآتي إلى العالم قام بفعل ثوريّ مفاده الانقلاب على كلّ ما يهين الكيان الإنساني حاملاً قضيّة واحدة: قضيّة الإنسان.
تحمل هذه الآية في مضمونها مفهوماً خاصّاً ومتميّزاً عن الثّورة الّذاتيّة، أي ثورة الإنسان على نفسه، وعلى كلّ ما يمكن أن يخالف سلوكه بالمسيح. ويمكن تقسيمها إلى قسمين:
- الأوّل: " فمن هو في المسيح هو خلق جديد":
المسيح أتى إلى هذا العالم ليعيد للإنسان كرامته الإنسانيّة وبهاءه الأوّل وصورته الّتي هي على صورة الله. أتى ليحدث ثورة في الحياة الإنسانيّة في عمق جوهرها، ولم يأتِ ليبشّر بالمحبّة والسّلام وحسب، وإنّما ليزلزل الكيان الإنسانيّ ويقلب كلّ المفاهيم الّتي تهين الكرامة الإنسانيّة رأساً على عقب. وليتمّ هذا الانقلاب الجذري لا يكفي أن نلتزم بوصايا وفروض وشرائع لأنّها لا تصيب الهدف المرجو، ولعلّ الالتزام السّطحي بها لا يفيد الجماعة والمجتمع ككل. فتنفيذ الوصايا وإتمام الفروض الدّينيّة وتطبيق الشّرائع أمر، وأمّا السّلوك في حرّيّة المسيح فأمر آخر. من السّهل جدّاً تطبيق الأمر الأوّل، ولكنّه يصعب كثيراً على الإنسان أن يسلك في المسيح ما لم يقرّر تحويل جوهره بحزم والانقلاب على كلّ تقليد أو موروث أو سلوك مغاير لفكر المسيح. لقد ثار القديس بولس على ذاته، عندما امتصّ كيانه محبّة المسيح، وصار مأخوذاً به وثار المسيح فيه على كلّ تشويه إنسانيّ، ولم يعد مدفوعاً إلّا بالمسيح حتّى يحقّق حبّه في هذا العالم.
من كان في المسيح، فلا بدّ أنّه قبل في ذاته الفكر المسيحيّ بكلّيّته، كما لا بدّ أنّه أفرغ ذاته بكلّيّتها حتّى يمتلئ من المسيح، فيصير خلقاً جديداً. هذا القبول بحدّ ذاته هو ثورة على الذّات وتحرّر من الكبرياء المتربّص بالإنسان الّذي يمنعه من تحقيق إنسانيّته وصورة الله فيه. يقول السّيّد في الفصل الخامس من إنجيل متى الآية 16: " فليضئ نوركم هكذا قدّام النّاس، لكي يروا أعمالكم الحسنة، ويمجدوا أباكم الّذي في السماوات." ومن هو الإنسان حتّى يتمكّن من الإتيان بعمل صالح من خلاله يتمجّد الله، ما لم يكن هذا العمل مستمدّاً من النّور الإلهيّ، وما لم يكن قد سلك الإنسان بحسب منطق الله؟ ومن هو الإنسان حتّى يكون نوراً ما لم ينصهر بالنّور الإلهي، نور المسيح؟. والسّلوك بحسب منطق المسيح يحتاج ثورة على الّذات من خلالها يعترف الإنسان أنّ منطقه الشّخصيّ يبقى ناقصاً وغير مكتمل وغير فعّال إلى حدّ بعيد في تجديد إنسانيّته ما لم يتبنَّ فكر المسيح المجدّد لإنسانيّته والرّافع إيّاها إلى فوق. " كونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل." ( متى 48:5).
إنّ مبدأ الالتزام المسيحيّ ليس تطبيقاً للشّريعة وإنّما الانصهار بالمسيح حتّى يصير الإنسان مسيحاً آخر وبالتّالي هذا الانصهار يفترض ثورة تبدّل كلّ ما في الإنسان وتغيّر منطقه وتحوّل بصيرته باتّجاه المسيح، حاملاً على عاتقه أن يبذل نفسه بوسائل شتّى من أجل الإنسان، أي إنسان، فلا يعود إنساناً بل مسيحيّاً.
ولمّا كنّا قد قبلنا المسيح الكامل، ولبسناه واتّحدنا به وصرنا مسيحاً آخر، قبلنا أن نثور على أنفسنا متّبعين سلوك المسيح الثّائر ومنهجه الفكريّ والنّفسيّ والرّوحي. لا يكفي أن نؤمن بالمسيح ونحبّه، بل ينبغي أن نعمل بحسب مشيئته، بل أن نسمح له أن يعمل من خلالنا. المسيح ثار على كلّ ما يعيق الحياة الإنسانيّة الفكريّة والاجتماعيّة والنّفسيّة والرّوحيّة، إلّا أنّ ثورته تحمل في مفهومها منطقاً إلهيّاً مرتبطاً بالمحبّة والتّسامح والرّحمة. ثورة المسيح، هي ثورة المحبّة الّتي لا يمكن أن تأسرها فخاخ السّلطة، والمصالح الشّخصيّة، وتجييش النّاس واستعبادهم تحت شعار " الثّورة". هذه الثّورة تنطلق من الإنسان باتّجاه الله حتّى يرتفع ويبلغ كمال إنسانيّته ويحقّق صورة الله فيه وفي وطنه ومجتمعه وحياته ككل. إنّها ثورة بعيدة عن بحور الدّمّ، ومتنائيّة عن الشّعارات الفارغة، والتّحريض الّذي يدفع الإنسان لتغليب غريزته على منطقه العقلانيّ. في أكثر من موقع طلب المسيح من تلاميذه ألا يعلموا أحداً بما رأوه من مجد المسيح ( متى 9:17)، ( متى 20:16)... وذلك لأنّ المسيح لم يأتِ ليكون زعيماً تهتف النّاس له وتصفّق لإنجازاته وتتبعه عن غير وعي، وإنّما أراد أحراراً يسيرون به ومعه في النّور كي لا تهلكهم الظّلمة. وأمّا السّلوك في النّور فهو تخطٍّ لكلّ عائق يجرح الكيان الإنسانيّ، والسّلوك في الظّلمة هو كلّ ما يدفع بالإنسان إلى الهلاك.
- الثّاني: " لقد ذهب العتيق وصار خلق جديد":
من كان في المسيح أحبّ كالمسيح، وبالتّالي صار خلقاً جديداً. إنّها المحبّة الإلهيّة الّتي تخلقنا من جديد، وتدفعنا للثّورة على ذواتنا أوّلاً فنرذل كلّ قيد يأسرنا في سجن ذواتنا ورغباتنا وأنانيّتنا، فنصبح خلقاً جديداً يعيش في هذا العالم بحسب رجائه في العالم المعدّ له، الحياة الأبديّة. والخلق الجديد لا بدّ أن يرفض كلّ عتيق يمسّ بإنسانيّته وبإنسانيّة الآخر، ولا بدّ أن يبذل ذاته في سبيل من هم بحاجة إلى استيعاد كرامتهم كما بذل المسيح نفسه من أجلنا. الخلق الجديد، رسل حبّ في هذا العالم الغارق في حقده وبغضه، وأنانيّته، وسطحيّته، يخرجون إلى العالم بروح ثوريّة جديدة، روح المحبّة، محبّة المسيح الّتي لا تجدّد الإنسان وحسب، وإنّما تجدّد وجه الأرض كلّها. رسل قرّروا أن يكرّسوا حياتهم لكلّ إنسان لأنّ كلّ إنسان هو أخ للمسيح، وقرّروا أن يقتحموا أبواب الجحيم ولا تقوى عليهم.
هي ثورة تحطّم كلّ صنميّة فينا وكلّ طمع في سلطة واستعباد للآخر وانتهاك لحرّيّته، وترسّخ في الكيان الإنساني لغة الله، لغة المحبّة. إنّها اللّغة الثّوريّة الّتي تقود الإنسان إلى ربح كلّ شيء والاستغناء عن كلّ شيء، وهي لغة الثّائرين على عالم يعمي الأبصار بأنواره الخادعة، ويستحكم بالنّفوس بضلاله القاتل، ويستعبد الإنسانيّة بمجده الباطل.
لقد ثار المسيح على كبرياء الإنسان واعتداده بنفسه عن غير حقّ، وجالس الخطأة والزّواني والعشّارين وحوّل حياتهم وجذبهم إليه، لأنّه ينظر إلى عمق الإنسان ولا يطمع في استعباده ودفنه في تصريحات وشعارات وأيديولوجيّات. ثار على لصوص يحوّلون بيت الله إلى مغارة يخبّئون فيها غنائمهم ولكنّه لم يتعدَّ على كرامة أحد، ولم يستهن بإنسانيّة أحد. ثار المسيح على الفرّيسيّين وتعنّتهم وجشعهم وغلاظة عقولهم وقلوبهم، وتنازل برحمة لا متناهية ليحاكي قلب الإنسان وألمه. ثار على الموت، وسار إليه طوعاً، بشجاعة وصمت، ولم يعتلِ منصّات يدعو من خلالها النّاس إلى أن يفدوه بأرواحهم، بل ارتضى السّيّد أن يبذل ذاته أوّلاً من أجل أحبّائه حتّى إذا ما صاروا خلقاً جديداً بذلوا أنفسهم من أجل الإخوة.
كلّ مسيحيّ يحمل في ذاته محبّة المسيح هو ثائر حتّى يستعيد كلّ إنسان كرامته. وثورته مرتبطة بفكر المسيح، وباتّزان المحبّة وهدوء العقل الحكيم ورزانة النّفس وضبط ردّات الفعل وتغليب رصانة العقل على العواطف المبتذلة.
إنّ الثّوار يموتون واقفين، يواجهون الموت بلا خوف ولا تردّد، باذلين أرواحهم من أجل قضيّة اقتنعوا بها وقد لا يكون قد اقتنع بها سواهم، وأمّا المسيح فمات مرتفعاً من أجل قضيّة واحدة، ألا وهي كرامة الإنسان. الثّوار يرحلون وقد يذكرهم التّاريخ أو لا يفعل، وقد ينصفهم أو لا، وقد يصفهم بثوّار وهم مجرّد أشخاص تهيّأت لهم ظروف معيّنة قادتهم إلى السّلطة، وقد يصبحون رمزاً يتبدّل مع ولادة ثائر جديد. وأمّا المسيح فهو سيّد التّاريخ وموجّهه، وليس رمزاً ولم يحمل في فكره أيديولوجيا قابلة للتّبدّل والتّعديل وإعادة النّظر، بل حمل فكراً واحداً ثابتاً، ومفهوماً إنسانيّاً لا يقبل الجدل، مفهوم المحبّة. إنّه المسيح الحيّ، المسيح المحبّة، الّتي هي اتزان بين العقل والعاطفة، والّتي تغذي الحكمة وتنقي الروح وتطهرها، وتردّ النّفس إلى سبل البرّ وتقوّم الحياة الإنسانيّة كي لا تتخبّط في بؤس جهلها وحقدها.
الحبّ هو الثّورة الحقيقيّة، وسيبقى المسيح ثائراً إلى الأبد في كلّ من قبله وصار خلقاً جديداً، لأنّه ثار على آخر ما يمكن أن يرعب الإنسان، ثار على الموت وغلبه.
|