ولد آريوس فى ليبيا بعد منتصف القرن الثالث بقليل، ودرس بمدرسة لوكيانوس بأنطاكية حيث كان زميل دراسة لبعض الأشخاص الذين أرتقوا فيما بعد إلى درجات الرئاسة الكهنوتية
. وهم الذين عضدوه ودفعوا به للمضى في طريق الكفاح لأجل نشر أفكاره.
وكل هؤلاء الزملاء الذين درسوا في مدرسة لوكيانوس صاروا يلقبون بأسم “اللوكيانيين” أو “الاتحاد اللوكيانى”.
وهذا لا يمنع أن آريوس درس أيضًا في مدرسة الأسكندرية اللاهوتية قبل دراسته بأنطاكية.
ويمكن أن يقال إن آريوس جمع في تعليمه بين إتجاهين مختلفين لمدرستى أنطاكية والأسكندرية.
وفيما بعد أخذ المنتمون لمدرسة أنطاكية يهاجمونه ويتهمونه بأنه أسكندرى، في حين أن المنتمين إلى مدرسة الأسكندرية كانوا يحاربونه متهمينه بأنه أنطاكى.
إستوطن آريوس في الأسكندرية حيث رسمه الأسقف بطرس كاهنا .. وأظهر في أول حياته ميولاً متعصبة متمردة لأنه قبل رسامته وبعدها كان منضمًا للأسقف المنشق ميليتوس أسقف ليكوبوليس (أسيوط).
ولهذا السبب جرد من رتبته الكهنوتية، إلا أنه فيما بعد أعيد مرة أخرى إلى رتبته على يد الأسقف أخيلاس خليفة الأسقف بطرس.
وما لبث أن عمل على تأييد إنتخاب الكسندروس أسقفًا للأسكندرية خلفًا لأخيلاس
. وإن كان آريوس نفسه قد أستطاع بتأثير ثقافته وصفاته الشخصية أن يصير ذو شأن كبير في المدينة.
إلاّ أنه بعد بضعة سنوات (حوالي عام 318م) اصطدم مع الكسندروس بسبب الإختلاف حول تفسير نص في الكتاب المقدس خاص بشخص ابن الله.
وكان الكسندروس قد أعطاه ـ كما أعتاد الأسقف أن يفعل مع الكهنة ـ موضوعًا ليبحثه.
وفى الشرح الذي قدمه آريوس حاول أن يعبر عن ابن الله بمفاهيم مخالفة للإيمان المستقيم.
رأى الكسندروس في تقرير آريوس محاولة للتقليل من شأن ابن الله وتحقيره… وأثبتت الاتصالات بين الرجلين على أن آريوس أصر على رأيه وأعتبر أفكار الكسندروس أنها سابيلية
(1).
وبالرغم من هذا فإن الأسقف لم يتعجل في اتخاذ أى إجراء ضد كاهنه. إلا أنه فيما بعد أضطر الأسقف أن يتخذ قرارًا من مجمع قسوس الكنيسة، أدان فيه آريوس بسبب بدعته وقطعه من شركة الكنيسة.
رحل آريوس إلى فلسطين ثم اتجه إلى سوريا قاسيًا الصغرى
. وتمكن من أن يجمع حوله عدد من الأساقفة وأفقوه على آرائه، وكان من بين هؤلاء “أوسابيوس أسقف فيقوميديا” اللوكيانى، و”أوسابيوس أسقف قيصرية” الأوريجانى. وأن الأساقفة الذين تجمعوا حوله قد أيدوه وبرأوه في مجمع عقدوه.
وطالبوا بأن يعود مرة أخرى إلى الكنيسة.. وسرعان من كتب آريوس أقرارًا وافقوا عليه في مجمع عقدوه في نيقوميديا، وأرسله كرسالة إلى أسقف الأسكندرية الذي رفضه.
ودعا بالطبع إلى مجمع بالأسكندرية سنة 318م اعتمد إدانة آريوس.
وبعد ذلك بقليل، بسبب الاضطرابات التي نشأت نتيجة للمصادمات التي وقعت بين قسطنطين الكبير وليكينيوس، تمكن آريوس من العودة مرة أخرى إلى الأسكندرية.
حيث أخذ بعمل بحماس شديد وبأساليب مبتكرة لأجل ترويج أرائه ونشرها بين الجماهير عن طريق الأحاديث والأشعار… وقد ساعد على نشر آريوسيته ما كان يظهر به آريوس من مظاهر الورع والتقوى إلى جانب ما يتصف به من الكبرياء والتباهي وحبه للنضال.. وكان يجرى مباحثاته اللاهوتية مع الشعب.
فأنتهز الوثنيون تلك الفرصة وأخذوا يسخرون من المسيحية في مسارحهم بسبب تلك المناقشات
(2).
وهكذا أثار هذا الموقف قلق قادة الكنيسة.
كما أزعج الإمبراطور أيضًا، الذي رأى أن هذه المشاكل ستكون خطرًا على السلام الذي حققه بجهود مضنية وكفاح مرير ولكنه لم يتوقع أن تكون خطرًا على السلام على المدى البعيد.
لذلك فهو إذ رأى أن هذه المعركة تبدو أمرًا تافهًا لا يستحق أن يصدر له نطقًا ساميًا، فاكتفى بأن أرسل “هوسيوس” أسقف قرطبة بأسبانيا إلى الأسكندرية بخطاب إلى رؤساء الأطراف المتنازعة
(3).
ولكن هذه المحاولة لم تأت بأية نتيجة
. عندئذ دعا الإمبراطور إلى مجمع عام يعقد في نيقية عام 325 والذي اشتهر باسم، “المجمع المسكوني الأول”…
وقد أدان هذا المجمع تعاليم آريوس وحرم أسقف نيقوميدية مع ثلاثة أساقفة آخرين لتأييدهم لتعاليم آريوس.
أما آريوس فإنه في البدء أُرسل إلى نيقوميديا مكبلاً بالقيود، ثم نفى بعد ذلك إلى الليريا… ألا أنه على الرغم من هذه التدابير فإن هذه المحاولة للتهدئة لم تنجح، لأن أصدقاء آريوس استمروا في نشر مبادئه وتعاليمه… ولذا إقتنع قسطنطين ـ بواسطة العناصر المهادنة للآريوسية والمحبة لها، وتأثر بهم.
مما جعله يستدعى آريوس من منفاه عام 327.
وبعد تحريض من أسقف نيقوميديا عرضوا صيغة اعتراف إيمان على الإمبراطور أخفوا عنه فيها.
حقيقة عقيدة آريوس، وكانت كنيسة نيقوميديا قد وافقت على هذه الصيغة في المجمع الذي عقد بها.
إلا أن الأرثوذكسيين لم يجبروا على منح آريوس العفو.
حتى أن الكسندروس أسقف الأسكندرية وأثناسيوس الذي خلفه لم يقبلاه في الأسكندرية.
ولم يرغب قسطنطين حينئذ أن يؤزم المسائل أكثر بأن يفرض على أسقف الأسكندرية ـ بأن يقل آريوس.
بل أنه في الواقع عندما طلب أنصار آريوس من الإمبراطور ـ برسالة محررة بلهجة شديدة ـ أن يتدخل لأجل تأمين عودة آريوس إلى الأسكندرية، غضب قسطنطين وأعاد أدانتهم بمرسوم آخر أسماهم فيه “بالبورفوريين” أى أنهم مشايعون لتعليم “بورفيريوس
”(4).
وبعد وساطات متعددة غيروا مرة أخرى من مشاعر قسطنطين ورحل آريوس إلى القسطنطينية حيث أعترف بالإيمان الأرثوذكسي أمام الإمبراطور وتمسك بأن يصير مقبولاً بطريقة رسمية على نطاق أوسع بالكنيسة.
إلا أن الأمر بتحديد موعد بقبوله في كنيسة القسطنطينية قد تلاشى نهائيًا، إذ أن آريوس سقط ومات في مرحاض عام فجأة ليلة الموعد المحدد لقبوله
(5).
مؤلفاته:
استحوذ آريوس على مركز هام في التاريخ الكنسي، لكنه لم يترك أثارًا كثيرة.
فقد كتب أعمالاً قليلة نسبيًا وصلنا منها النذر اليسير. وهذه الكتابات التي وصلتنا عبارة عن رسائل خارجية.
إلا أنها في واقع الأمر تحوى إعترافاته وهى:
(أ) رسالة إلى أسقف نيقوميدية:
وقد حفظها لنا إبيفانيوس في كتابه “باناريون
”(6)
. وكذلك ثيئودوريتس في كتابه “التاريخ الكنسى
”(7)
. وفى هذه الرسالة يحتج على تحامل الكسندروس ضده وضد أتباعه ويعرض آراءه وتعاليمه في صراحة تامة.
ويقول أن الابن إله لكنه “ليس غير مولود Agenntos” “ولا جزء من غير المولود” وفى النهاية يستنجد باوسابيوس أسقف نيقوميديا مسميا إياه أنه من “الاتحاد اللوكيانى”.
(ب) رسالة إلى الكسندروس أسقف الأسكندرية:
حفظت هذه الرسالة في أعمال “أثناسيوس عن المجامع
”(8)
. وفى كتاب “باناريون” لابيفانيوس
(9)
. كما حفظت باللغة اللاتينية في كتاب “الثالوث لايلارى
”(10)
. وهى الاعتراف الإجمالي إلى كان قد قدمه لمجمع نيقوميديا الأول والذي عقده الآريوسيون المنفيون.
وفى هذه الرسالة تحاشى التعبيرات المثيرة وأعتبر أن “الابن قد ولد قبل كل الدهور”.
إلا أنه لم يكن موجودًا من قبل أن يولد.
(ج) إعتراف الإيمان:
حفظت هذه الرسالة في التاريخ الكنسي لسقراط
(11)
والتاريخ الكنسي لسوزومينوس
(12)
. وفى هذه الرسالة حجب عقيدته الحقيقية وقال بأن الابن قد ولد قبل كل الدهور (لأنه لو كتبت كلمة gegennimenos المولود” بحذف حرف n منها أى gegenimenos لتغير معناها وأصبحت تعنى المخلوق وليس المولود.
(د) ”ثاليــا”:
حفظ أثناسيوس في كتاباته بعض نصوص هذا الكتاب
(13).
وكلمة “ثالثا” معناها مأدبة أدبية.
وقد دبجها كلها تقريبًا بأبيات منظومة وبلحن نسائي.
وفى افتتاحيتها نجده يظهر نفسه أنه مملوء بالعقيدة والعواطف الشجية عندما يتعرض للحديث عن الله..
“بحسب إيمان مختارى الله… عارفى الله…
أبناء قديسين.
ذوى التعاليم الشرعية الثابتة.. حاصلين على روح الله القدس…
أنا نفسى تعلمت هذا .. من حكمة المشاركين.. السابقين.. عارفى الله..
حسب كل أقوال الحكماء.. أتيت أنا مقتفيًا أثر كل هؤلاء..
وأنا ذو السمعة الحميدة.. متمش بنفس العقيدة..
ومتحمل كثيرًا من أجل مجد الله.. بنفس حكمة الله..
وفيما عدا هذا، يبدو أنه كان لآريوس مجموعة أخرى من الأشعار لكل مناسبة من مناسبات الحياة
(14).
(كما أشار بذلك أثناسيوس) في المجموعة التي تسمى “البحرية”، “الرحى” “الرحلة”.. الخ.
ووفقًا لما يقوله أثناسيوس فإن كل هذه القصائد قد دبجت بلهجة ونغمة داعرة مثل التي كان يكتب بها سوتيادوس أشعاره القومية.. كانوا يتغنون بها في مأدبهم بضجيج صخب وعبث..