مات القمر
بالأمس احتجب القمر عن سماء بلادي.
سألت عنه، فقيل لي أنه حزم حقيبته و مضى.
مضى مع الشباب الذين هاجروا… و لن يعود. كان القمر يطل علينا، في بلادي، في ليال الصيف.
يجلس تحت العريشة ليسرق أخبار الصبايا.
كان ضوؤه يتوهج بريقا في عيون الفتيات السوداء، على شعرهن الأسمر، على خدودهن الحمراء و على حبات العنب الخضراء المتدلية عن العرائش. كان يرافق العشاق على درب العين ليلا. يهديهم باقات من نور، يذيب قصائدهم بضيائه الفضي،
يهمس في آذانهم، ينير دربهم و يلعب معهم. كان يتنصت على ثرثرة العجائزفيسرق أخبارهن و ينثرها حكايات في بيوت القرية. كان يطل على النوافذ الخشبية ليرمق الاطفال النيام قبل ان تأتي غيمة و تخطفه كيما ينام هو أيضا على حريرها الابيض… مثل الاطفال.
احتجب القمر عن سماء بلادي عندما احترق وطني و هجره شبابه
و بكت صباياه. لم نكن نعرف أن القمر يخاف صوت البارود مثل الاطفال. لم نكن نعرف أن النار تحرق وجهه و تشوّهه مثلما تشوّه وجوه الناس. كنا نظنه يسكن في السماء حيث نار سكان العصر الحجري لا تطاله.
احتجب القمر عن سماء بلادي، حين داس شبابها ضياءه
و رموا قصائد الغزل و حملوا البنادق و رشقوه بأعيرتهم النارية.
رشقوه و رقصوا فرحين مثل البرابرة. حزن القمر لانهم خدشوا وجهه و لطخوه بالدماء البريئة.
حزن لما رأى أن الشباب في بلادي أدمنوا لعبة ا لموت و عشقوا البنادق و الرصاص. غاب لما صارت المدارس ثكنات حرب. خاف لما غطى البارود وجه السماء. صار يبكي و يرتعد خوفا مثل الاطفال الصغار.
لم يعد القمر يستمتع على شرفات منازلنا بعدما هجرها أهلها . في آخر مرة ذهب فيها القمر الى العين بكى. بكى مثل الاطفال. فالعين كانت مقفرة و حزينة و مياهها جفت منذ هجرها العشاق.
يوم أطل القمر على شرفات منازلنا الخشبية كيما ينير أحلام أطفالها
و يتمنى لهم نوما هنيئا، بكى. غطى وجهه بيديه و بكى. بكى مثل الاطفال.
بكى لأنه رأى طفلا صغيرا ممددا على سرير اسود لا يستطيع الحراك. بكى لأن الأطفال ينسجون أحلامهم من ضوئه، فإن هم ماتوا ما عاد نفع ضوء القمر؟
غاب القمر عن سماء بلادي لان الاحلام هجرتها. يبدو أن بين القمر و الحلم و الطفولة علاقة سرية سحرية كنا نجهلها. يوم هجر الحلم بلادي و غاب الاطفال عن شوارعها، مات القمر و احترق الشجر و جف النهر و ذبل الورد.
هل من يعيد القمر الينا؟ هل من يقنع شباب بلادي برمي البنادق و استبدالها بقصائد الغزل؟ هل من يرد الاحلام للعيون الصغيرة التي بكت؟ هل من يزرع الورد على شرفات منازلنا المدمرة؟ هل من ينقي مياه العين كيما تعود صالحة للشرب؟ هل من يرد الشباب الذين حزموا حقائبهم و مضوا مرغمين؟ هل من يرافق الصبايا على درب العين؟ هل من يزرع البسمة على شفاههن و الامل في قلوبهن؟ هل من يمسح دموع الحزن عن عيون الامهات؟ هل من يمسح دموع الالم عن عيون الرجال؟…
قيل لي أنه عندما يبكي رجل من بلادي تبكي معه الارض و السماء!… هل من يعيد الأعراس الى وطني؟ هل من يجترح المعجزات فيقيم بلادي من سبات الموت و يلبسها ثوب العرائس و يهديها للشمس؟ منذ مات وطني، هجر القمر سماءه، احتجبت الشمس و جفت الانهار. مات وطني فهل تراه يقوم؟ لست أدري! فأنا أعرف أن الاموات لا يقومون و أن الانسان لا يستطيع السير الى الوراء و لا الولوج في الماضي.
ليتني أكون مخطئا.
ليت القمر يعود الى سماء بلادي. ليت بلادي تقوم من بين الاموات. |