الإصرار الخاطئ

موضوع: الإصرار الخاطئ السبت نوفمبر 01, 2014 8:47 am

الإصرار الخاطئ

أتى راهب إلى القدّيس باخوميوس، والتمس منه أن يقبله في دير الشركة. وبعد قبوله ببضعة أيّام، اتّقدت فيه رغبة الاستشهاد، وكان السلام وقتئذ، في عهد الملك قسطنطين، سائدًا في العالم والكنيسة بنعمة الله.
وكان يطلب من القدّيس باستمرار قائلاً له: "صلّ من أجلي، أيّها الأب، لأصير شهيدًا". فنصحه القدّيس أن يجاهد جهاد الراهب المتواضع بثبات ونقاوة قائلاً له: "ستحصل على شركة الشهداء في السماوات إذا حقّقت سيرتك حسب مرضاة المسيح، ومنعت هذا الفكر من الدخول إلى قلبك".
ورغم هذه النصائح، استمرّ الراهب مصرًّا على رأيه، ومزعجًا القدّيس كلّ يوم لكي يصلّي من أجله. وإذ رأى إصراره قال له أخيرًا، مبتغيًا التخلّص من إزعاجه: "سأصلّي من أجلك ما دمت تودّ ذلك، فاستعدّ حتّى لا تنكر المسيح بعد أن عقدت العزم على الاستشهاد من أجله".
وبعد سنتين اتّفق أن أرسل القدّيس بعض الرهبان إلى قرية جبليّة مجاورة لجمع القشّ بغية حبك الحصر. وقد جاء إلى القرية، آنذاك، قوم برابرة قساة جدًّا. ففكّر القدّيس أن يرسل الأخ الراغب في الاستشهاد بغية تأمين الأغراض للإخوة. فدعاه وأوصاه أن يستعدّ للذهاب قائلاً له: "ها وقت مؤاتٍ ها يوم خلاص، فلا نكوننّ عثرة في أيّ شيء لئلاّ يلحق الخدمة عيب" (2كو 6: 2-3).
فأخذ الراهب الحمار محمَّلاً بالأغراض، وتوجّه نحو القرية. ولمّا بلغ البرّيّة صادفه البرابرة، الذين كانوا قد هبطوا من الجبل ليستقوا ماء، فأوثقوا يديه وقادوه إلى الجبل مع الحمار المحمَّل بالأغراض، وأسلموه إلى رئيسهم.
وهناك أخذوا يهزأون به قائلين: "أيّها الراهب، تعال فاسجد لأوثاننا". وبعد أن ذبحوا الحيوانات المعدّة لتقدمة الآلهة، جاؤوا بالراهب وأرغموه على مشاركتهم في التقدمة. وإذ رفض ذلك هجموا عليه بغيظ وشهروا عليه سيوفهم مهدّدين إيّاه بالقتل إذا أصرّ على رأيه.
فخاف إذ رأى السيوف مشهَرَة، وأسرع وشاركهم في الأكل من ذبائح أوثانهم، لأنّه خشي موت الجسد غير مدرك أنّه بإنكاره السيّد المسيح قد ماتت نفسه. وبعد أن انتهى من ذلك أطلقه البرابرة. فنزل من الجبل وقد فطن لإثمه، لا بل لكفره الذي ارتكبه، ومزّق ثيابه وأخذ يضرب وجهه بشدّة متوجّهًا إلى الدير.
ولمّا علم القدّيس بقدومه، وأدرك ما حلّ به، خرج للقائه حزينًا. وإذ شاهده الراهب رمى بنفسه على الأرض صارخًا: "أخطأت أمام الله وأمامك، أيّها الأب، ولم أسمع نصيحتك الطيّبة. فإنّي لو أطعت قولك لما حلّ بي ذلك". فأجابه الشيخ: "انهض، أيّها التعس، لقد حرمت نفسك من خيرات لا تحصى، ورفضت إكليلاً وُضع على رأسك. إنّ المسيح كان حاضرًا في تلك الساعة مع ملائكته القدّيسين مستعدًّا لوضع الإكليل على رأسك، لكنّك أنكرته في لحظة لخوفك من الموت المزمع أن يصادفك. فانفصلت عن الله، وخسرت الحياة الأبديّة. أين هو الكلام الذي نطقت به أوّلاً؟ وأين هو شوقك للاستشهاد؟".
فأجابه الراهب: "لقد خطئت، أيّها الأب، ولا أستطيع بعد أن أرفع رأسي إلى السماء. لقد هلكت، ولم يعد فيّ قوّة لأتوب، فماذا أفعل؟ إنّي لم أتوقّع نهاية كهذه".
وبعدما نطق بهذه الأقوال وهو يبكي قال له القدّيس: "أيّها الشقيّ، لقد جعلت ذاتك غريبًا بالكلّيّة عن الربّ، لكنّ الله صالح، ولأجل كثرة صلاحه ورحمته لا يستمرّ غضبه طويلاً، لأنّه يبتغي مغفرة خطايانا إذا تبنا، فإنّه لا يشاء موت الخاطئ بل توبته، ولا يودّ بقاء الساقط في سقطته، بل نهوضه. فلا تيأس ما دام لك رجاء بالخلاص. فالشجرة وإن قُطعت، كما جاء في الكتاب، فستفرع من جديد. إنّ ما جرى كان درسًا لك ولنا، لكي لا نتحمّس ونطلب أمورًا قبل أوانها، فالربّ يعلم متى يجب أن يعطينا كلّ أمر في وقته المناسب لخلاصنا. والآن، إن أطعتني في كلّ ما أقوله لك، ستنال المغفرة من الله".
فأجاب الراهب وهو يبكي بكاء مرًّا: "سأطيع كلّ ما تقوله لي، أيّها الأب". فأمره القدّيس أن يحبس نفسه في قلاّية هادئة، وألاّ يتكلّم مع أحد حتّى يوم مماته، وأن يكتفي بالأكل من الخبز والملح يومًا بعد يوم ومرّة واحدة. وأن يشرب ماء، ويحبك بدل الحصيرة الواحدة، كما يفعل الإخوة، حصيرتين. وأن يسهر ويصلّي قدر استطاعته غير منقطع عن البكاء البتّة.
فقبل الأخ هذه النصائح برغبة، وانطلق إلى محبسه، وطبّق كلّ ما أمره به القدّيس. ولم يقبل أن يفتقده أحد، طوال حياته، سوى القدّيس باخوميوس مع بعض الآباء الشيوخ الذين كانوا ينسكون في الدير. وبعد أن أمضى الراهب في هذا الجهاد عشر سنوات رقد بنعمة الله رقادًا مغبوطًا شهد له القدّيس باخوميوس مؤكّدًا راحته ومغفرة خطيئته.

اعداد دير راهبات القديس يعقوب الفارسي المقطع

» ايها الخاطئ ...
» الحب مع سبق الإصرار والترصد