– ملكي صادق –
" بلا أب بلا أم بلا نسب.
لا بداءة أيام له ولا نهاية حياة بل هو مشبّه بابن الله " عب 7 : 3
من هو ملكي صادق ؟ هذا السؤال الذي حيّر الناس جميعا منذ أن ظهر الاسم على صفحات الوحي المقدّس في ثلاثة أماكن من الكتاب: في سفر التكوين 14 : 18 – 20 والمزامير مز110 : 4 والرسالة الى العبرانيين عب 5 : 6 و 10 – و6 : 20 - و7 : 1 و10 و11 و 15 و 17 و 21 – إن التفسير حول هذه الشخصيّة اختلف وتباعد. فمن قائل أنه المسيح جاء الى العالم قبل التجسّد، وكان ملكا على أورشليم، ومن قائل أنه واحد من الملائكة أرسله الله ليعيش بين الناس، ويملك بالبر والسلام. ومن معتقد أنه أخنوخ عاد مرّة أخرى الى الحياة الأرضيّة بعد أن نقله الله اليه، ومن متصوّر أنه سام ابن نوح الذي لم يكن قد مات بعد والتقى بابراهيم عند أبواب ساليم، أي " أورشليم " ومن فكّر أنه أيوب بعد تجاربه المريرة.
ولعل الذي دفع الناس الى ذلك، هو أن هذه الشخصيّة ظهرت أمامهم كحزمة من النور، لمعت في قلب الظلام والوثنيّة، وكانت شديدة البهاء، في جلالها ومجدها وعظمتها. فمن هو الرجل الذي يعلو على ابراهيم أبي المؤمنين ورأس الأمّة العبريّة. ويباركه ويأخذ منه تقدمة العشور؟ ومن هو ذلك الانسان الذي يجمع في شخصه الملكيّة والكهنوت، الأمر الذي لم يعرفه العالم إلا في المسيح النبي والكاهن والملك؟ ومن هو هذا الذي يقدّم الخبز والخمر، كما قدّم السيّد لأتباعه وتلاميذه في العشاء الرباني، ان الكلام العظيم والصمت المهيب، واللمعان الخاطف هي التي أعطت هذه الشخصيّة مقامها المرتفع في كل التاريخ، لتصبح رمزا أو شبيها للسيّد الأعظم في سائر الأجيال.
ملكي صادق وشخصيته : من الواضح أن ملكي صادق شخصيّة تاريخيّة لا شبهة فيها، فالرجل الذين قابل ابراهيم في رجوعه من كسرة كدر لعومر والملوك الذين معه، وباركه وأخذ عشرا من الغنائم، لا بد إلا أن يكون انسانا، ومن غير المتصوّر أنه أخنوخ أو سام بن نوح للسبب البسيط أن كلا الرجلين معروف أبوه، وهو لا يمكن أن يكون المسيح قبل التجسّد، لأن الوحي يقول في عبرانيين 7 " مشبّه بأبن الله " ولا يمكن أن يكون واحدا من الملائكة، جاء ليحكم ويصبح ملكا على ساليم، لأن الملائكة أساسا، جميعهم أرواحا خادمة، مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص عب 1 :14 – ومن المستبعد أن يكون أيوب الذي سجل الوحي قصته من البداية الى النهاية وليس فيها أقل إشارة الى ما وصف به ملكي صادق. فان منشأ الخلط الذي دعا به هذه التصورات المختلفة المتعددة هو القول الذي وُصف به : " بلا أب بلا أم لا بداءة أيام له ولا نهاية حياة "
ولا شبهة بأن المقصود بالتعبير الكتابي، أن الرجل ظهر فجأة في التاريخ دون سابق إعلان، وانتهى أيضا هكذا دون اشارة الى نهايته، فلا يعنينا من قصته إلا الجزء الكتابي المشار اليه، باعتباره أنه ملكا وكاهنا على ساليم يبارك ابانا ابراهيم، ويأخذ العشور منه. وكما ظهر ايليا التشبي من مستوطني جلعاد، دون أن نعرف من هو أبوه أو أمه، حتى اُخذ الى السماء في مركبة ناريّة، بعد أن أدى رسالته، كأعظم ما يؤدي الأنبياء رسالتهم، دون أن نشغل بنسبه أو أجداده، هكذا رأينا ملكي صادق، كاهنا وملكا على أورشليم . ولعله من واجبنا أن نقف بإجلال أمام الصمت الكتابي، سواء عن ماضيه أو مستقبله في القصة الأرضيّة، قبل أن يُؤخذ الى المجد في حضرة الله، ويكفي أن نشير الى تمييز أو رمز فريد ذو مغزى عظيم، والذي نرى فيه أمميا يبارك ابراهيم أبا المؤمنين، بل قد يكون الأمر أعجب، هذا اذا ذكرنا أنه واحد من سكان ساليم، أو من أبناء كنعان ابن حام الذي لعنه أبوه.
ولا بد أن نقف هنا أمام كنز عظيم من النعمة الالهية المذهلة للعقول : أن ابن حام يبارك ابن سام، وليس العكس، ان الله في جلاله الأزلي أراد أن يؤكّد أنه ليس لليهود فقط بل للأمم أيضا. وأنه ليس لأحد أن يتفاخر على أحد، وأن ربّا واحدا للجميع " يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه، ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء" رو11 : 33 فان الله شاء أن يرسل في قلب الكتاب صوَرا من ألمع الصوَر أهميّة، أمثال أيوب وراحاب وراعوث وملكة سبا ونعمان السرياني وقائد المئة الذي أثار أعجاب المسيح، اذ لم يجد إيمانا مثل إيمانه في كل اسرائيل وغيرهم وغيرهم. ومع ذلك فليس بين هؤلاء جميعا، من تألق نوره وعلا على ابراهيم نفسه، سوى ملكي صادق ملك ساليم. فان الصورة المشيرة عن ملكي صادق إنه وهو كنعاني من أبناء حام، عاش وحكم في ساليم ملكا للبر والسلام. ويحق فيه قول كاتب الرسالة الى العبرانيين : " مشبّه بابن الله ".
ملكي صادق كاهن الله العلي : كان من وجه الشبه الاول بين ملكي صادق والمسيح، هو في الكهنوت، ومن اللازم أن نلفت النظر الى أن المسيح، وان كان قد جاء على رتبة ملكي صادق، إلا أن ملكي صادق كان الرمز، والمسيح المرموز اليه، وكان كاتب الرسالة الى العبرانيين دقيقا، عندما وضع هذه الحقيقة في القول: " مشبّه بابن الله " ولم يقل العكس ان ابن الله مشبه به، فالمسيح يتعالى علوا أبديّا على ملكي صادق. فان ملكي صادق ككاهن لم نسمع منه الا عبارات البركة لابينا ابراهيم، ولا نعلم كيف أخذا هذا الكهنوت من الله، لكننا نعلم بكل يقين أنه أخذه منه، مباشرة، وبدون تسلسل أو وراثة بشرية، وهو هنا يختلف عن الكهنوت اللاوي تمام الاختلاف، وكان كهنوت ملكي صادق " بلا نسب" أي لا يعتمد على الوراثة بقدر ما يعتمد على المؤهل الشخسي للكاهن. وكان بجانب ذلك غير مقيد بالزمن " لا بداءة أيام له ولا نهاية حياة " وقد قدم ملكي صادق الخبز والخمر مصحوبين بالبركة لأبي المؤمنين ابراهيم ليأكل ويتقوّى، بعد المعركة التي خاضها في كسرة كدر لعومر والملوك الذين معه، وأرجع لوطا والاسلاب. ولا شك أنه لم يأتنا نصر في حياتنا كمؤمنين إلا من الله وبركته في هذه الحياة، في أصغر الأمور أو أكبرها على حد سواء، كما أن البركة مُنحت لأبي المؤمنين، وهو يقدّم خدمة نبيلة للاخرين دون بحث عن مطمع أو غاية ذاتيّة.
ملكي صادق ملك البر: كان ملكي صادق ملك البر قبل أن يكون ملك السلام، لأن البرّ هو الأساس، والسلام هو البناءالذي يقوم عليه، البر هو الشجرة، والسلام هو الثمر الذي تصنعه شجرة البرّ. وليس لملكي صادق أدنى بر ذاتي، بل بره يستند الى هضبة الجلجثة، الى صليب ربنا يسوع المسيح. لقد عاش ملكي صادق هذا البر، بروح المسيح الساكن فيه، والمسيطر على حياته، لذلك كان هذا الرجل حقا ملك البر.
ملكي صادق ملك السلام: كان ملكي صادق ملك ساليم أو ملك السلام، وقد كان حكمه في ساليم، والتي أصبحت فيما بعد أورشليم، ومع أننا لا نعلم على الاطلاق كيف كان يحكم ساليم، وهل حمل سلاحا، وهل علّم أتباعه أن يحملوا السلاح، وهل طالب بناموس العين بالعين والسن بالسن ؟ . كلا . فهو الرجل الذي عاش في جيله دون أن أن يعتمد على سيف أو رمح، ولم يكن له عدو، ودعي بين بني جيله " ملك السلام " فكيف أمكنه أن يحكم شعبا شرسا دون تهديد ؟ تلك هي الاعجوبة حقا. ان السلام الصحيح، هو السلام الالهي، سلام البر، هو سلام أولا وقبل كل شيء مع الله، وهو سلام الغفران " لا سلام قال الرب للأشرار" أش 48 :22 وهذا السلام لا يأتي الا بيقين الغفران " فاذ قد تبررنا بالايمان صار لنا سلام مع الله " ومتى تحقق هذا السلام فسنعيش في سلام مع النفس، مهما أحاطت بنا العواصف في هذه الحياة.
_________________________________________________ |