الشريعة
أقول لكَم ينبغي أنْ لا تخدعوا أنفسكَم أكثر مما يجب، إذ أنّ : الشريعة ما هي إلا سيف مصّلّت على رقابكم ليل نهار، لا يُليق شيئا، فالشريعة هي دعوة للحرب الروحية، وليست للحياة السهلة الخالية من الألم، وقد تعني الموت أكثر بكثير ما تعني الحياة. لا تعني أنّه سوف تفتح لكم بابا للحرية، ولا تكسر حاجز الصمت المضطرب، ولا تطلقكم أحرارا حتى في التفكير والتخيل وتصور عالم آخر. فهي لا تقيم الدليل القاطع على أنّكم سوف تخلصون من حكمها ولا من الدينونة الرهيبة العتيدة، حتى وإنْ أنتم فعلتم الصلاح بعينه، وخرجتم من نفق الخطيئة المظلم، أو سرتم على نهج أو سعيتم إلى تغيير ما فسد، أو مسحتم عن سواعدكم أدران الخطيئة والإثم، ولبستم رداء البرّ الذاتي، الذي ليس سوى ورق التين.
أنتم ستظلون فقط عبيدا كل ايّام حياتكم ليس إلا، لا تعرفون أنْ تعطوا لأنفسكم راحة حقيقية، إذ لا تعرفون سوى الخضوع والخشوع وإذلال الجباه لها، والانحناء أمام لوح الوصايا، هذه هي الطريقة الوحيدة التي تعرفونها. ترضخون للأوامر مثل العبيد، تؤدون الواجب الملقى على كاهلكم. لأنّ الشريعة تطلب ذلك، ولأنّ لم تأتْ في المقام الأول، لتفتح بابا لأجل الإنقاذ، ولا لأجل افتقاد الذين يطلبونها أو يعملون بموجبها، أو يغذّون الخطى في إثرها. بل أتتْ لتقضي بالحقّ والعدل والحكم بالاستقامة ليس إلا. ومن منكم من دون خطيئة؟ فهي تقرع الأذان، تدين وتدين وتزمجر فوق الرؤوس، وتجتث كلّ فساد، وتكسر كل حصون المقاومة، وتسفّي تراب الموت فوق رؤوس الأردياء وكل الساقطين. فهل بعد ذلك من رجاء يلتمس من شريعة لا تمنح لكم الحرية والخلاص ؟
تدرك الشريعة جيّدا حقيقة فساد قلوبكم ورغباتها، وهي تعرف بلادة أفكاركم وعقولكم، ورفض ذهنكم عن قبول الحق، وتظهر كم أنتم أشقياء تعساء على وجه البسيطة، والإنسان لا طائل تحته سوى المتاعب. هي تعرف أنّه يعوِزكم البرّ الذي يقترن بالإيمان، لا البر الذاتي. لذا هي تملككم بعصا حديديّة لا تلين. هي لا تبرئ ولا تترأف بالضعفاء، ولا بمن يكسر وصاياها، هي تحتقر السالكين دروبا أخرى، هي تؤود ظهور الأشرار وتدقّ أعناق الخطاة، بلا رحمة، وترجم كلّ الزناة، وتلعن كل الخارجين على وصاياها، ومن عاش على الهامش، وكلّ من تنكّب عن طاعة كلمتها. هي لا تبرر البتة أيَ امروئ، ما دام ذاك العبد ابتعد عن جادة الصواب، وما دامتْ الشريعة ممسكة بيدها عصا غليظة، لا ترحم، لأنّ مسئولية الإنسان هي أنْ يعيش حسب الحق فقط.
أنتم تسعون في أثر الشريعة . هل ترى لكي تعثروا على باب نجاة، بابا للمكافأة ؟ أو للبحث عن معرفة الخير والشرّ أو لمعرفة يقين الخلاص الأكيد العظيم، لكي تطمئن قلوبكم المتعبة الخائرة، أو لكي تختبروا فيضا من القوّة، وتنالوا حماية من لدن عدو متربص أو بغية أن تقيّموا نفوسكم التي تتسم أفعالها بالرياء والبر الذاتي لكي تتظاهروا بتقواكم المزيّفة مع بعضكم البعض بتمسككم بها وتدينوا الخارجين عليها بشدّة ؟
لكن أقول لكم : " أنّ الشريعة لا تعدكم البتة بالخلاص العتيد، ولا هي قادرة أنْ تكفر عن الذنوب، أو إزالة السيئات، أو حتى أنْ تمنح الحياة الفضلى، لا من بعيد ولا من قريب، مثل العبد البطال الذي لا استحقاق له حتى لو أنجز عمله على أتمه، فلا ينال الإنسان، الحياة بما يفعله من أعمال، ولا تورث الحياة الأبدية بالاعتماد على طاعة الناموس، إذ لا يمكن أنْ يسترد المرء شيئا لم يكن موجودا بالفعل، لأنّ الخطيئة تأتي بالإنسان إلى العبودية والأسر، وهي فساد داخلي عميق، لن تزيل آثارها عبارات الشريعة.
الشريعة لا تترك الحبل على الغارب، ولن تنزع عن الأرض غضبها. هي لا تغدق عليكم الرحمة، لأنْ لا رحمة لها، هي تفتقر إلى الرحمة، ولا تسربلكم بالرأفة طالما أنتم تحت طائلة الحكم. لن تستطيع الشريعة أنْ تجعل حياة الله تسكن فيكم، ولا أنْ تستأصل أباطيل الحياة فيكم، أو تعيشوا فوق الصعوبات. فمن يحمل السيف لا يعرف سبيلا إلى الرأفة، وأنّ من يميل إلى الانتقام، يفتقر إلى المحبّة، ولا يعرف إليها سبيلا. فالشريعة أدارت ظهرها لصرخات المساكين والمعذبين، وكل همّها أنْ تبحث عن جريرة في نفوسكم، وتسعى لكي تكتشف اتجاه حالة القلب. والشريعة لا تقدر أنْ تعدكم بأيّ شيء آخر يتفق مع طموحكم، لأنّها لا تملك كنوزا أو عطايا.
من المؤسف جدا أنْ تضطرب مثل هذه الأمور في أذهانكم، فهذه ليست النتيجة، وعليكم أنْ تكشفوا القناع عن هذه الأكذوبة، فأنتم لا ، لن تنالوا من الشريعة شيئا يذكر، ولا النزر اليسير، فالشريعة لن تغيير الأخلاقيات، حتى لو لبسكم أقمصة من جلد. بل تسحب البساط من تحت أقدامكم، هي تنزل اللعنات وتصبّ جام غضبها عليكم وتدقّ أعناقكم، وتأتي بكم إلى دينونة صارمة حيث الظلمة الخارجيّة. هي وحدها تعرف أنّكم أشرار وأنّكم قد جبلتم بالشرّ من أخمص أقدامكم إلى هامة رؤوسكم، تعرف أنّكم تتمرّغون في الشر كلّ أيّام حياتكم. أنتم أصبحتم أبناء الغضب وتتسترون بأسمال الرذيلة، بمآزر من ورق التين لكي تستروا عورتكم.
الشريعة تعرف أنّ الإنسان فقد القدرة على سماع صوت الله، وتعرف أنّكم غارقين حتى هامة رؤوسكم في الفقر الروحي المدقع، تحاربون بقوانين الفكر وليس بقوانين الحرب. تعرف الشريعة كم أنتم بعيدين عن الحقّ وإلى أيّ درك سافل انحدرتم، وسقطتم. هي تعرف فسادكم ودناءتكم ونجاسنكم، تعرف أفكاركم الشريرة ورغباتكم ومرارة قلوبكم وتمرغكم في اللذات الشهوانية البهيمية. هي تعرف أنّ خطواتكم تنحدر إلى خدور الهاوية، والموت. وتعرف أنّ قليلا من الناس، هم الذين يضعون الحكمة في القمة. أليستْ الشريعة مثل المرآة، ماذا يمكن للمرآة أن تمنحكم ، عندما تنظرون خلقتكم فيها ؟ لا يمكنها أنْ تعطي شيئا ما، ولا لأنْ تغير شيئا البتة، بل تترك فراغا تملئه قوى الظلام.
أليستْ الشريعة لا تكفّ تصرخ في وجوهكم، لتقول: " أنتم عبيد بطالين ". الشريعة هي التي تزرع في قلوبكم الخوف والحيرة. تنفث سموم التفرقة بين الأخوة وتجركم من المجامع. هي تسخر منكم وتزدري بكم وتحتقركم وترذلكم. إنّها تنظر إليكم في شزر، لأنّها لا تريد أناسا ضعاف لا تنفعون ولا يقوون على فعل أيّ شيء. هي تفرّق ولا تجمع. الشريعة تتوعدكم بالويل والثبور فيما إذا أنتم ركبتم رؤوسكم ونظرتم إلى درب آخر أو تجاوزتم أو كسرتم إحدى وصاياها الصغيرة ولم تلهجوا باسمها ليل نهار وتستسلموا لها وتدينوا لها بالطاعة والولاء وتنصاعوا مثل انصياع العبيد لسادتهم مسلوبي الإرادة. من دون قيد أو شرط، ومن دون أنْ يبدوا أيّ تحفظ. أو شرط، لقاء لا شيء.
إنّ الشريعة تريدكم دائما، أنْ تكونوا مرهقين متعبين، تنؤون تحت أثقال كبيرة، لا عهد لكم بها. تريدكم الشريعة أناسا تعساء ضعفاء مغلوبون على أمركم لكي تتسلم هي وحدها زمام الأمر، لكي تقودكم هي إلى حيث تشاء. فهي تمجّكم في بحور التعاسة والشقاء، لأنّكم ما عدتم تصلحون لكي تمنحكم هبة الحياة، وأنّ شأنكم لا يختلف كثيرا عن المرتزقة الذين صرفوا من الخدمة بعد أنْ لعبوا الدور وأنجزوا العمل الذي كلّفوا به.
لكن أقول إنّ هناك رجاء واحد فقط، لا غير، هو أنْ اطلبوا قوة من العلاء، لكي تحلّ في داخلكم وتحرركم من عبودية الشريعة. فتلك هي نعمة السماء، التي تزيل طبيعتكم القديمة، بما فيها من ذنوب وآثام، هي التي تحرّك ضمائركم وقلوبكم، وهي التي سوف تسعى أن تعمل وتعمل من دون ممل أو كلل. لكي تكون بديلا عن الشريعة، تكون تبارك وتمنح النعمة لا النقمة واللعنة.
|