الجسد في "العبادة بالروح والحقّ" - الجزء الاول -
بولــــس متروبوليت حلب والاسكندرون وتوابعهما
-------------------------------------------------------------
"الله روحُ"! إن أهم تجديد أدخلته المسيحية إلى العبادة كان تحويلها والسمّو بها إلى كمالها إلى "العبادة بالروح والحق" (يوحنا 4، 24). لكن هذا لا يعني أنها عبادة عقلانية بمعزل عن الجسد دون علامات وأوضاع خارجية. فالروح هنا لا تعني روح الإنسان-نفسه، لكن الروح القدس. أما الإنسان فيعبد بكل كيانه روحاً ونفساً وجسداً (1تسا 5، 23). إن الإيمان عندما يغمر الإنسان يحرك كل كيانه. وهذا يظهر في الحركات والعلاقات الخارجية. فليس من عبادة حق دون اشتراك الجسد في التعبير بطريقة أو بأخرى.
الجسد، في المسيحية، ليس سجناً للروح، تتحرك هذه فيه وتريد أن تتحرر منه، فليس هو عالة على النفس. إن الجسد هو أداة الحياة الروحية. وهناك دور هام له في كل علاقات الإنسان، فعدا العبادة، في كل أطر الحياة، تأخذ حركات الجسد ووضعياته الجزء الأهم والظاهر من التعبير الروحي والنفسي للكائن البشري. فإحناء الرأس أو رفع اليد أو الوقوف.. كلها لها مدلولاتها الروحية. وهذه المدلولات ليست تعابيراً اجتماعية أو محليّة فقط بل هي الشكل الطبيعي للحياة الروحية والنفسية للإنسان في مظاهرها عبر الجسد. الكائن البشري هو كيان واحد غير متجزئ. والإنسان يعبد بالروح والحق بواسطة جسده ونفسه، أي بكل كيانه. بالطبع إن الحركات الخارجية والمظاهر دون مشاركة القلب والعقل تبدو باطلة، وهذا ما سمّاه يسوع "مراآة" وهي عبادة مرفوضة بالمطلق. لكن وجود مثل هذا الاحتمال لا يلغي ضرورة التعابير الجسدية وقدرتها على مساعدة القلب في العبادة وحقيقتَها كتعبير كياني حي.
"هلم لنسجد ونركع للمسيح ملكنا وإلهنا"، عبارة تتكرر في افتتاحيات طقوسنا وخلالها، وهذه إحدى ألوان مشاركة الجسد في العبادة، أو بكلمة أخرى هي إحدى أشكال التعبير عن العبادة بالروح والحق.
"السجود" هو طريقة للتعبير إما عن العبادة لله، أو عن الإكرام للقديسين. وهو عادة بشرية متّبعة حتى خارج المسيحية والأديان عموماً. فالإنسان يسجد أمام الأقوى منه استرحاماً، أو يسجد شكراً وامتناناً. والعبيد يسجدون أمام ملوكهم. إن السجود هو التعبير العميق عن الإتضاع والاحترام، والكتاب المقدس ملآن بالأمثلة في عهديه القديم والجديد. لقد سجد بني يعقوب لأخيهم يوسف في مصر. وسجد يعقوب لأخيه عيسو سبع مرات إلى الأرض. لهذا يعلن بولس يسوع المسيح المصلوب ربّاً " لاسمه تجثو كل ركبة في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض" (فيلبي 2، 9-11). وسجد التلاميذ للمسيح عند ظهوره لهم بعد قيامته من بين الأموات (متى 28، 9 و17؛ لوقا 14، 5). وسجد المجوس ليسوع وهو طفل (متى 2، 2 و11)، مقدمين له واجب العبادة بحقّ. ويخبرنا سفر الرؤيا عن تلك العبادة لله الحي القادر على كل شيء الذي كان والكائن والآتي، "فكان الشيوخ الأربعة والعشرون يخرّون قدام الجالس على العرش ويسجدون للحي إلى أبد الآبدين ويطرحون أكاليلهم أمام العرش قائلين: أنت مستحّق أيها الرب أن تأخذ الكرامة والمجد..". وهذا ما فعله يوحنا الرسول في رؤياه وهمّ بالسجود للملاك "فخررتُ أمام رجليه لأسجد له، فقال لي انظر لا تفعل... اسجد لله" (رؤيا 19، 10)