أحبّت هذه السيّدة الله، وارتبطت بالصلاة وقراءة الكتاب المقدّس، وتمتّعت بعشرة الله في الكنيسة. تحرّك قلبها لخدمة المحتاجين، فصارت تزور دور الأيتام والملاجئ حيث كانت تستمتع بتعليم الأطفال القراءة في الكتاب المقدّس، وتسافر مسافات طويلة للاهتمام بكلّ من تسمع بأنّه محتاج.
لام هذه السيّدة أقرباؤها بسبب المتاعب والمشقّات التي كانت تتحمّلها، مشفقين على صحّتها. أمّا هي، فكانت تدافع عن نفسها بأنّها غير مستحقّة أن تخدم هؤلاء المحتاجين، إذ كانت ترى فيهم المسيح، فمن هي حتّى تنال هذا الشرف، وتخدم المسيح؟!!! لذا لم تؤثّر فيها هذه الاعتراضات، بل زادتها تمسّكًا بالخدمة، إذ ترى الله فيها كلّ يوم، فيزداد اتّضاعها وفرحها.
في أحد الأيّام، كانت تقود سيّارتها لزيارة أحد الملاجئ، فتعرّضت لحادث مريع انقلبت فيه سيّارتها، وأسرع الناس لإسعافها. ومن حسن حظّها، بل بتدبير العناية العلويّة، أنّه كان بين الحاضرين طبيب متخصّص في إصابات العمود الفقري. فلمّا وجدها حيّة، أمر بإخراجها ببطء شديد لئلاّ يعرّضها لمشاكل قد تؤثّر على أعصابها وفقراتها.
وصل الإسعاف، وأخرجها من السيّارة بصعوبة، وذهب بها إلى المستشفى. وبعد الكشف عليها، وُجد أنّها تعاني من ضغط شديد على الحبل الشوكي في الفقرة العنقيّة السابعة، أدّى إلى شلل الأطراف الأربعة.
وبعد القيام بالإسعافات الأوّليّة لها، إذ لم يجدوا حلاًّ لمشكلتها، عادت إلى بيتها، لتجلس على كرسيّ متحرّك، إذ فقدت القدرة على استخدام أطرافها. فأخذ أحبّاؤها وأقرباؤها يقولون لها: "لقد أوصيناك كثيرًا أن تريحي جسدك، وهذه هي النهاية، فلكثرة أتعابك فقدت القدرة على كلّ شيء". كان كلامهم ثقيلاً جدًّا عليها، وبدأ الشكّ في علاقتها بالله يدخل إلى قلبها، وتتذمّر ولو في داخلها.
في أحد الأيّام وجدت ابنتها تتجّه نحو الثلاّجة لتشرب ماء، فقالت في نفسها: "إنّي عاجزة عمّا تفعله ابنتي. إنّي عطشى، ولا أستطيع بمفردي أن أشرب، بل يجب أن أطلب، دومًا، من الآخرين تلبية حاجاتي". ثمّ طلبت من ابنتها أن تقرأ لها مقاطع من الكتاب المقدّس، وفيما هي تسمع غفت، فرأت في غفوتها يسوع المصلوب، وهي تعاتبه قائلة:
- لماذا تركتني؟ لماذا تخلّيت عنّي؟
- أنا أشعر بكلّ أتعابك، فلقد مررت بكلّ ما تمرّين به من آلام.
- لا، بل إنّك لا تشعر بي البتّة. إنّك احتملت آلامًا كثيرة، ولكنّك لم تتعرّض للشلل أو العجز الذي أعانيه أنا الآن، فهل كنت مشلولاً وعطشانًا، ولم تستطع أن تشرب؟!
- انظري إليّ وأنا على الصليب، ألم أكن مشلولاً لا آتي بأيّ حركة؟ ألم أعطش وسُقيت مرارة وخلاًّ؟
وما إن استفاقت حتّى أخذت تراجع ما رأته، وتتذكّر كلام السيّد، فهدأ قلبها، بل وشعرت أنّه يشاركها أتعابها ويشعر بآلامها، ثمّ تذكّرت كيف قام من بين الأموات، فتشجّعت أكثر، وبدأ الأمل يدبّ في قلبها، وازداد إيمانها بأنّ الله يستطيع أن يحلّ لها مشكلتها، فاستغرقت في صلاة طويلة حارّة.
وعند الكشف عليها ثانية، قال لها الطبيب: "إنّ العصب لم ينقطع، ولكنّه ضُغط ضغطًا شديدًا، وهناك أمل محدود في تجاوبك مع العلاج الطبيعي، حتّى تتحرّك أطرافك". فأظهرت استعدادًا لعمل جلسات العلاج الطبيعي، وأمل الشفاء يراودها.
بدأت الجلسات، ولم تظهر أيّة نتيجة رغم مرور الأيّام والشهور، ولكنّها ثابرت برجاء لا ينقطع مقرون بالصلاة المستمرّة. وأخيرًا بدأ التحسّن البطيء، وبدأت هي بالصلاة، أكثر فأكثر، علّها تعود إلى خدمتها. ومع هذا الرجاء والإصرار على الحياة والحركة ازداد التحسّن، حتّى استطاعت أن تقف على رجليها وتحرّك يديها ولو حركة بسيطة.
مرّت الأيّام، وأخذت هذه السيّدة المؤمنة تتحسّن تدريجيًّا حتّى استطاعت أن تخدم نفسها بمساعدة الآخرين أوّل الأمر، ثم توصّلت إلى أن تعتني بنفسها وحدها. وبعد عدّة أشهر، وعندما أحسّت أنّها تستطيع التحرّك بحرّيّة تامّة أرادت العودة إلى خدمتها، فاعترض ذووها على ذلك بشدّة. أمّا هي، فأصرّت على قرارها قائلة: "هذا هو أملي في الحياة أن أخدم ربّي بشخص أولاده المحتاجين، ولن أشعر بالسعادة والراحة الحقيقيّة إن لم أعدْ إلى خدمتي. إنّ هذه الخدمة بركة كبيرة لي ولعائلتي، ولا تظنّوا أنّ ما حدث لي يعيقني عن الاستمرار، كلا، بل إنّه يدفعني إلى القيام بخدمتي بقوّة أكبر وإيمان أوفر، لأنّ الربّ معي، فلا أخاف شيئًا". وهكذا عادت إلى خدمتها برفقة أحد المساعدين، إذ لم تكن قادرة، بعد، على التحكّم بمقود سيّارتها.
اعداد راهبات دير القديس يعقوب الفارسي المقطع