أبينا البار أليبيوس العمودي (القرن7م)
26 تشرين الثاني شرقي (9 كانون الأول غربي)
"أيها الحكيم أليبيوس، لقد أصبحت عماداً للمتوحدين بانتصابك على العمود مكابد الحر والبرد وأتعاب النسك الكثيرة. فلذلك تقبلت مواهب النسك الكثيرة لتشفي الأمراض وتطرد الآلام المستعصية".
(صلاة المساء – على يا رب إليك صرخت)
بهذه الأنشودة توجز الكنيسة المقدسة سيرة أبينا البار أليبيوس الذي ولد ونشأ ونسك في مدينة أدرينوبوليس في مقاطعة بافلاغونيا الواقعة في الجزء الشمالي الأوسط من آسيا الصغرى.
أم فاضلة
فأما الفضل في توجيهه فيعود إلى أمه التي يبدو أن الإلهيات كانت هاجساً لديها وأليبيوس بعد في الحشى. وقد ورد في سيرته أن أمه، في حبلها، عاينت رؤيا، حملاً له بدل القرنين شمعتان مشتعلتان فحفظتها في قلبها نبوءة تخبر عن مولودها العتيد.
قدمته للكنيسة طفلاً
ثم أن أب أليبيوس مات والصبي في الثالثة فعهدت به أمه إلى أسقف المدينة، ثيودوروس، ليتربى على خدمة الكنيسة، على يده، ويتلقن الكتب المقدسة. وقد أبدى أليبيوس منذ تلك الفترة المبكرة من حياته تقى ومواهب جمّة جعلت الكثيرين يتساءلون عما عسى أن يكون قصد الله فيه ويمجّدون.
إلى الحياة الرهبانية
ونما الصبي في النعمة والقامة إلى أن بلغ سناً خوّله الانخراط في خدمة الشموسية. إذ ذاك وضع الأسقف يده عليه وجعله شماساً ومدبراً لشؤون الأبرشية. وكما اعتاد الطاعة منذ الحداثة، أطاع في هذا الأمر أيضاً. والحق أنه أثبت جدارة ومقدرة لا لبس فيهما. لكن محبة الله في قلبه جعلته تواقاً إلى ما هو أبعد من ذلك، إلى الحياة الرهبانية الملائكية. لذلك لم يطل به المقام حتى عزم على ترك كل شيء وزيارة الأرض المقدسة، ومن ثم اقتبال الحياة الرهبانية. فلما أطلع والدته على الأمر باركت بفرح ودموع وشكرت الله ومجّدت. ألم تحفظ النبوءة في قلبها وهذا الإناء المصطفى بعد فيها جنيناً؟!
وقام أليبيوس فوزّع ما عنده على الفقراء وخرج سراً. كان يعرف أن أسقفه ضنين به ولا يسمح له بالمغادرة. وإن هي سوى أيام قلائل حتى استعاده الأسقف ولم يكن قد ابتعد عن المدينة إلا قليلاً.
وشعر أليبيوس بالخيبة والإحباط فجاءه وحي يقول له إن في مدينته أيضاً أماكن مقدّسة: بيت لحم والناصرة وأورشليم والجلجثة، وإن مشيئة الله هي أن يسلك في جهادات النسك في بيئته.
وخرج من جديد إلى جبل مقفر، إلى الجنوب من المدينة، فوقع، بنعمة الله، على نبع ماء فاستنسب المكان وباشر ببناء كنيسة صغيرة وقلاية. ولكن، اكتشف الأسقف المكان أيضاً ولم يرض بأليبيوس بعيداً عنه فسد النبع وأجبره على النزول إلى الساحل.
وإذ اشتدت معاناة القدّيس ظهرت له القديسة أوفيميا (16 أيلول) وثبتته في قصده ومنحته الأمان.
أخيراً خرج أليبيوس إلى موضع قريب من المدينة كان الناس يستعيذون بالله منه لأنه كان مدافن وهياكل وثنية خربة تسكنها الشياطين. وبعدما زرع فيه الصليب مكان صنم ضخم وبنى كنيسة صغيرة على اسم القديسة أوفيميا، أقام في ما يشبه القلاية الصغيرة سنتين يتروض على جهادات النسك. عمره يومذاك كان ثلاثين ربيعاً. وقد أقام في هذه القلاية سنتين في حرب ضروس ضد الشياطين، صائماً، ساهراً، مصلياً: سلاحه إشارة الصليب والكلمة الإلهية في الكتاب المقدس.
على عامود
وذاع صيت أليبيوس وبدأ الأقوام يتدفقون عليه، فكان يستقبل الجميع بمحبة ولطف ووداعة ويحرص على الصغار والكبار معاً، فلا يعود أحد إلى بيته إلا وقد امتلأ فرحاً بالروح. هكذا سلك لبعض الوقت إلى أن فطن إلى ما يمكن أن تسببه له هذه الحال من أذى فقرر، إذ ذاك، الإقامة على عمود. والعمود الذي اختاره كانت منصته ضيقة بحيث لا تسمح، لمن عليها، لا بالرقود ولا بالقعود، فقط بالوقوف. وهكذا كان على أليبيوس أن يبقى واقفاً كالعمود الحي لا يظلل رأسه غير شبه سقف من خشب، ولا ما يحميه من الحر والبرد والرياح والأمطار. على هذا النحو عاش أليبيوس شهيداً حياً لا يوماً ولا شهراً ولا سنة بل ثلاث وخمسون سنة كاملة.
كل يوم من أيام أليبيوس صارع فيه الطبيعة صراعاً عنيفاً. وليس الطبيعة وحسب بل الشياطين الحاسدة أولاً. لم تترك له الشياطين فرصة واحدة ليرتاح بل كانت تهاجمه من كل جهة وبشتى الاحتيالات والأشكال والأصوات. حتى الحجارة ألقتها عليه لتنزله عن عموده، فلم ينزل ولم يتزعزع. ولكي يبين للشياطين عقم هجماتها عليه وعدم اكتراثه لها طلب من أمه، التي لازمته عند أسفل العمود، فأساً وحطم به السقف الخشبي فوق رأسه وطرحه أرضاً. فلما رأت قوات الظلمة عجزها إزاء غيرته ولهب محبته لله وجسارته تركته وفرت.
مشهداً للملائكة والناس
وتألق أليبيوس. بأن عموداً نورانياً ومشهداً للملائكة والناس. اجتذب أعداداً كبيرة من البشر صاروا يأتونه من القريب والبعيد سائلينه الصلاة من أجلهم وملتمسين العزاء والنصح والشفاء. وقد منّ عليه الله بموهبة النبوءة وشفاء المرضى. وكان يصلح من كانوا في عداوة ويكرز بالكلمة. حتى الثوب الذي كان يغطي بدنه ألقاه مرة لفقير كان أكثر عرياً منه. ولبث يرتجف من البرد إلى أن لاحظه أحد الناس فجاءه بثوب بديل.
كثيرون غاروا لغيرته والتهبوا شوقاً لله بلهبه حتى إن ديرين ارتفعا، كلاً في جهة من العمود، أحدهما للرهبان والآخر للراهبات، وكان أليبيوس الصلة بينهما وصلتهما بالله. وكانت أمه وأخواته في دير النساء.
هكذا قضى أليبيوس أيامه، سخرة للساخرين، ولكن، بركة عظيمة تفوق التصور للملتمسين وجه العلي.
رقاده
رقد في الرب وهو في التاسعة والتسعين من العمر بعدما شل نصفه وتعطل بعض وظائف أعضائه وتقرح وصبر على الضيق والألم طويلاً. حبه لله كان أقوى من اللحم والدم. وجسده استهلكه لا في هوى عابر بل في هوى العبادة وحب الله، لذلك ذكره إلى الأبد.
طروبارية للبار اليبيوس باللحن الأول
لقد صرتَ للصبر عموداً، وللآباء القدماءِ ضارعتَ مبارياً لأيوب بالآلام، وليوسف بالتجارب، ولسيرة عادمي الأجساد وأنت بالجسد، فيا أبانا البارّ اليبيوس توسل إلى المسيح الإله، أن يخلص نفوسنا.
قنداق للبار اليبيوس باللحن الثاني
إن الكنيسة تمجدكَ اليوم وتمدحكَ يا اليبيوس، بما أنكَ قطب الفضائل وجمال النُسَّاك، فامنح بصلواتك النجاة من الجرائِم الرديئة، المكرمين بشوقٍ فضائلك وجهاداتِك، أيها المطابق لاسمه.