ميلاد ومحبّة متواضعة
+++++++++++++
يوم وُلد المسيح "في مغارةٍ"، حقّق الصّورة الأجلى للإنسانيّةِ المتساميةِ بِبُلُوغِها التّواضعَ الحقيقيّ. وقد فَضَحَ بِتنازُلِهِ كُلَّ زَيفٍ للبشرِ كامن في الاستعلاء المبدِّد للمحبّة. ولمّا كانت الكبرياءُ علّةَ سُقوطِ الإنسانِ وانفصالِه عن محبّةِ الآب، ارتضى ابنُ الله الوحيد، المستريحُ على الشاروبيمِ وربُّ المجد، أن يتّخذَ صورةَ الطّفلِ الفقيرِ المُضْجَعِ في مذودٍ للبهائم.
ابن الله الذي يملأ السموات والأرض مجدًا جاء وديعًا "لا يخاصم ولا يصيح...
قصبةً مرضوضةً لا يقصف وفتيلةً مُدَخِّنَةً لا يطفئ" (متى 12: 20).
ولقد تجاسر الشيطانُ الّذي خَدعَ آدمَ بالكبرياء أن يَختبر مدى تَمَسُّكِ المسيح بتخفّيه هذا، فأشار عليه: "إن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزًا...": وحاول العدوّ أن يستفزّ السيّد الذي أعطى الحياةَ للموتى ووهبَ البصر للعميان، فأضاف وهو "يريه جميع ممالك العالم ومجدها في لحظةٍ من الزّمان... لك أُعطي هذا السّلطان كلّه... لأنّه إليّ دُفِعَ وأنا أُعطيه لِمَن أُريد، فإنْ سجدتَ لي يكون لك الجميع" (متى 4: 1–11؛ مو 4: 1–13). لكنّ السيد سمح له أن يتمادى ولم يكترث بالتجربة. فصُعق الشيطانُ وارتعد.
أدرك أنّ المواجهة ستكون أصعب بكثيرٍ ممّا كان يظنّ، لأنّ ابن الله الوحيد لم يعتبر نفسه سوى ابنٍ للإنسان. وقد بقي هذا التّواضع سمةً بل نهجًا للقدّيسين في جهاداتهم..
حينَ كان القدّيس أنطونيوس الكبير يصلّي إلى الله ليحميَه من تجارب الشياطين، كان يقول: "يا ربّ نجّني من هؤلاء الذين يظنّون أنّني شيءٌ وأنا لست بشيءٍ. أنا لا أستحقّ حتّى أن يحاربُوني". وكانت صلاتُه تحرقهم.
أيّوب الصّديق لم يجدّف على الإله عندما جلس على المزبلة،
لأنّه حسب نفسه في المقام الذي يليق بخطاياه (أيوب 2: 10).
وفي تقليدنا أنّ رجلًا بسيطًا حضر إلى راهبٍ شيخٍ وبادره شاكيًا: يا أبتِ، لم يعد في أيّامنا من يؤمن! المسيح يعلّم في الإنجيل أنّ إيمانًا بمقدار حبّة الخردل ينقل الجبال. لم يعد لدينا إيمانٌ أو فضيلةٌ! فأجاب الشيخ أنّه هو شخصيًّا يعرف رجال صلاةٍ إذا ما رفعوا أيديهم للتّضرّع ينقلون الجبال. وفيما هو باسطٌ ذراعيه ليصوّر وضعيّة الابتهال التي لرجال الصّلاة، لاحظ أنّ الجبل تحت قدميه بدأ ينزاح. فخفض يديه على الفور وأخفى فضيلته.
كذلك يُروى في أدبنا الرُّهبانيّ أنّ متوحّدًا بارًّا اضطرّ يومًا إلى النّزول إلى العاصمة، ففضّل الوفود بعد الغروب لئلا يثير فضول الناس بِهَيئَتِهِ النُّسكِيّةِ إن أتى في وَضَحِ النّهار. وفيما كان يسير ليلًا في ظلمةٍ حالكةٍ بعيدًا عن الأنظار، أرسل الله ملاكَين مُنيرَين رافَقاه في الطّريق ولفتا أنظارَ أهلِ المدينة بِبَهاءِ سَطيعِهما، لأنّه "لا يوقدون سراجًا ويضعونه تحت المكيال بل على المنارة فيضيء لجميع الذين في البيت" (متى 5: 15؛ مر 4: 21).
المسيحيّ الأصيلُ يَهرب من المديح والإكرام ويختار لنفسه أمورًا صغيرةً ولكنّها نافعةٌ ومثمرة، متيقّنًا مِنْ أنّ الله أمينٌ يرى ما في الخفية، وَيُنمي ثمر الزّرع.
ويبقى عزاؤنا في الميلاد محبّة عميقة في نفوس إخوةٍ لنا مجاهدين في الكنيسة. إخوة أدركوا أنّ سيادة الله غير سيادة البشر وجعلوا مواهب العليّ سبيلاً للعطاء الخَفِر.
هؤلاء يصيرون بالنّعمة الإلهيّة نجومًا أزليّةَ الضّياءِ تُنيرُ نفوسَنا حين تكتنفُها الظُّلمات، وترشد خُطانا إلى سرّ المغارة. وإذ نُلْقي عنّا كلَّ فِكرٍ مُتَعالٍ، يُسَرُّ المسيحُ بذبيحتِنا (مز 50: 17)، لأنّه يَجدُ في قلوبنا، "حينئذٍ"، موضعًا يولد فيه.