++ أبراميوس ++
ترك أبراميوس العالم وهو شابّ يافع، ومضى ليتنسّك في البرّيّة.
وبعد سنوات بلغه أنّ أخاه رقد تاركًا وراءه ابنة صغيرة لم تتجاوز السادسة من العمر.
فقام أحد معارفه وحمل الطفلة اليتيمة، ومضى بها إليه،
فلمّا رآها أبراميوس قرّر أن يبقيها عنده رغم قساوة حياته
والصعوبات التي قد تحول دون نموّها هناك.
وهكذا صار لها أبًا رؤوفًا وأمًّا حانية ومعلّمًا حكيمًا.
ثمّ بنى لها كوخًا صغيرًا قرب منسكه، وعلّمها الأبجديّة،
وزوّدها بالتعليم المسيحيّ، وقاد خطاها في سبيل التقوى.
ومرّت الأيّام، وكبرت مريم، وهذا كان اسمها،
وبدأت تنمو وقد تكمّلت بالأخلاق والتقوى والفضيلة.
بيد أنّ إبليس الحسود عمد إلى إسقاطها في الخطيئة،
إذ حدث أنَّ شابًّا منافقًا كان يتردّد على البارّ ليتزوّد بنصائحه وإرشاداته!!
لكنّ زيارات هذا الشابّ للناسك لم تكن بنيّة حسنة،
إذ كان يُمنّي النفس برؤية الصبيّة الجميلة التي كان يلمحها بجوار منسك عمّها.
وذات يوم مضى البارّ إلى عمق الصحراء، كعادته، للمزيد من النسك والصلاة،
وبقيت الصبيّة وحيدة.
وكان إبليس يفتّش عن سانحة كي يوقع بها، فأوعز إلى الشابّ أن ينطلق إليها.
ونجح مخطّط إبليس. فلمّا عادت الصبيّة إلى نفسها،
وأدركت سقطتها لم تفكّر بالتوبة إلى الله،
بل خضعت لإيحاءات إبليس القائلة:
"لم يعد لك خلاص. لقد ضللت وهلكت".
ولمّا ألحّ عليها الفكر قامت وتركت القلاّية تحت جنح الظلام،
وهامت على وجهها دون أن تترك لعمّها أثرًا يدل على مكان إقامتها.
ولمّا انقضت ثلاثة أيّام على وجود أبراميوس في الصحراء،
أحسَّ بالتعب، فجلس على صخرة بجوار المكان، ونام.
وفجأةً انتصب واقفًا مضطربًا من حلمٍ رآه في نومه.
فقد بدا له بأنّه ينتظر مريم في بستان القلاّية الذي أقامه لها كي تأتي ليقرأ لها.
لكنَّه رأى فجأة حمامة بيضاء ترفرف فوق رأسه سرعان ما ارتفعت في الفضاء
لتنجو من فخّ كان قد نصبه لها ثعبان كبير،
غير أنَّها لم تفلح في النجاة من أنيابه.
فقد استطاع أن يُمسك بها بين فكّيه، وبلمح البصر ابتلعها.
حزن الشيخ جدًّا، وقام متوجّهًا إلى الثعبان، وراح يضربه حتّى أخرج الحمامة من جوفه،
فعادت إلى الطيران من جديد.
تأثّر الشيخ لرؤيته هذا الحلم، وتوجّهت أفكاره إلى مريم:
"لا بدَّ أنَّ مكروهًا أصابها"،
فانطلق مسرعًا متوجَّهًا توًّا إلى قلاّية مريم، ولكنّه لم يجدها،
فراح يبحث عنها في البستان، فلم يقف لها على أثر.
أمضى ليلته بقلق وحيرة، وفي صبيحة اليوم التالي بدأ يُمنِّي نفسه بعودتها، ولكن عبثًا.
وانتظر حتّى اليوم الثالث، ولكنّ حلمه لم يتحقّق.
أيقن الشيخ أنَّ مريم لن تعود، لأنّها سقطت في براثن التنّين، متذكّرًا الحلم الذي رآه.
انقضت سنتان والدمعة لا تُفارق خدَّيّ الشيخ، وأخيرًا،
قام إلى بعض معارفه، وطلب منهم البحث عن مريم في كلّ مكان.
أمَّا هو فعاد إلى قلايته، ليُضاعف جهاده، طالبًا من المسيح أن يُعيد له نعجته الضالّة.
وذات يوم، وقف على باب قلاّيته أحد معارفه الذين أوفدهم للبحث عن مريم، وقال له:
"يا أبت، لقد وجدنا مريم في إحدى بيوت الخطيئة".
فتفطَّر قلب الشيخ حزنًا، وتقطّعت أحشاؤه من وقع النبأ، لكنّه تجلّد وقال:
"ليكن. يكفي أنّنا عرفنا أين هي".
ثمَّ راح يفكّر بما يجب أن يفعله.
وأخيرًا قرّر أن يمضي إليها كي يُخرجها من ظلمتها، فقام وصلّى إلى الربّ وقال:
"يا يسوع، يا من نزلت إلى الأرض من أجل الضالّين، أعنِّي في مهمّتي".
ودون أن يُضيّع الوقت قام إلى صديقه، واقترض منه بعض المال والثياب،
واستأجر حصانًا وتوجَّه به شطر المدينة.
ولمّا وصل إلى المكان المحدَّد، توجَّه إلى المسؤول عن البيت،
ونقده بعض المال طالبًا منه وجبة شهيّة بصحبة تلك الصبيّة الجميلة.
أمّا الرجل، فتملَّكه الذهول، وراح يتأمّل الشيخ باحتقار،
ما جعل أبراميوس يبكي في قلبه، ويصلّي قائلاً:
"يا يسوع، انظر إلى تعبي وتواضعي، وأعنِّي في المهمة التي أتيت من أجلها".
ولكي لا يُثير الشبهات، راح يتناول الطعام ويحتسي الخمرة بنهم وشراهة.
ولمّا حان وقت لقائه بالصبيّة، اقتادوه إلى غرفة كانت هي تنتظره فيها بزينتها الكاملة،
وعيناها تُجيلان النظر فيه بسخرية وازدراء، مستغربة بياض شعره، وشيب لحيته.
أمّا هو، فحاول، بصعوبة، أن يُخفي دموعه، وقال لها بارتعاش:
"مريم، يا ابنتي، ألم تعرفيني؟!
لقد غادرت البرّيّة بحثًا عنك، كي أُعيدك إلى طريق التوبة.
أشفقي على شيخوختي، ولا تنسي مقدار تعبي للوصول إليك".
صُعقت مريم من هول المفاجأة، وتمنّت لو أنَّ الأرض تنشق وتبتلعها،
ولم تكن لتستطيع، لشدّة خجلها، أن ترفع عينيها لتنظر إليه،
بل بقيت مسمَّرة في مكانها لا تتفوّه بكلمة.
ولمّا أفاقت من صدمتها، انطرحت عند قدميّ الشيخ تبلّلهما بدموعها.
أمّا الشيخ، فقال لها:
"قومي، يا ابنتي، للإنسان إمكانيّة للخلاص كلَّ حين.
ومهما كانت السقطة كبيرة لا يمكن أن تغلب مراحم مَن رفع على منكبيه خطايا العالم".
وهكذا، وقبل أن ينكشف الأمر، خرج الإثنان خلسة من باب صغير
سالكين طريق العودة إلى الصحراء.
أمضى الشيخ أبراميوس بقيّة أيّامه بهدوء وسلام سعيدًا بتقدّم مريم الروحيّ،
وتوبتها العظيمة، إلى أن غادر إلى ربّه.
وأمّا مريم، فلمّا قضت سنين عديدة تذرف دموع الندم والانسحاق،
طارت إلى ربّها حمامة نقيّة بهيّة.
تعيّد لهما الكنيسة المقدّسة في 29 تشرين الأوّل.
اعداد راهبات دير القديس يعقوب الفارسي المقطع
==============================