العرافة والتنجيم
من وجهة نظر الإيمان المسيحي
"إلى الله وحده تطمئن نفسي و من عنده خلاصي .
هو وحده صخرتي و خلاصي ،
هو حصني فلا أتزعزع " .
مز 62 .
جميع الحضارات على مرّ العصور ، كشفت الطالع و الفأل ،
مستعينة بركائز مادّيّة و علامات خارجيّة في الطبيعة ، أكانت أفلاكًا أم حجارةً أم مياهًا .
و إذا طالعنا تاريخ الشعب اليهوديّ ، وجدنا أنّه هو أيضًا قد تعاطى
هذه الممارسات الّتي سمّاها " ممارسات الأمم الوثنيّة " ،
و يُخبرنا الكتاب المقدّس عن أنبياء الله الّذي حذّروا من كلّ هذه المعصيات
الّتي إنساق إليها الشعب بوحيٍ من ملوكه أحيانًا
و الّتي حرّمتها شريعة موسى بوحيٍ من الله .
في القرن السادس عشر ، ظهرت نبوءات " نوستراداموس
" الّذي كان يُسمّي نفسه الطبيب المنجّم لأنّه كان يعتمد على الحسابات
التنجيميّة الفلكيّة ليحدّد توقّعاته الّتي جاءت مبطّنة ،
غامضة يمكن تطبيقها على أحداث و حقبات تاريخيّة مختلفة .
اشتهرت أيضًا نبؤات نُسبت إلى القدّيس ملاخيا ، الأسقف الإرلنديّ من القرن الثاني عشر .
لا شكّ أنّ لهذا القدّيس مواهب روحيّة ، و لكن هذه النبؤات نُشرت بعد أربعة قرون على وفاته ،
ممّا جعل الباحثين يشكّون في صحّة نسبتها إليه . و في القرن العشرين ،
استعادت الأرواحيّة أمجادها الغابرة مع " آلان كاردك " ،
الملقّب بأب الأرواحيّة الحديثة ، كما ازدهرت العرافة على أنواعها
و عاد الاهتمام بالظواهر الخارقة بما يُعرف بالباراسيكولوجيا .
اليوم تلقى هذه الممارسات رواجًا منقطع النظير و بخاصّة في مجتمعاتنا المسيحيّة .
فتتهافت جميع وسائل الإعلام و تتسابق لاستقبال المنجّمين و العرّافين ،
قارئي الكفّ و الفنجان و الورق ، فتُكشف للمشاهدين توقّعات أبراجهم و تُفسَّر لهم أحلامهم .
لقد أضحت هذه الممارسات ، زيًّا رائجًا و تجارةً مربحة و نهبًا مشروعًا ،
و تساهم جميعها في تفريغ ما تبقّى من قِيَم و عاداتٍ و أخلاقيّات و تديّن ،
مروّجةً لبدع و ممارسات ، أقلّ ما نقول فيها إنّها لا إنسانيّة ، و لا إيمانيّة .
لابدّ هنا من توضيح مفهوم مهمّ جدًا يختلط على الكثيرين من المؤمنين .
فإنّهم لا يميّزون بين التنبّؤ كموهبةٍ روحيّة يهبها الروح القدس لمــَن يشاء لخير الجماعة ،
تلك الموهبة الّتي تكلّم عنها بولس الرسول في رسالته الأولى إلى أهل كورنتوس ( فصل 12 ) ،
و هي ضمن المواهب الروحيّة ، و تنبّؤ العرّافين و المنجمين الّذين سمّاهم الكتاب
" أنبياء الأصنام "، لأنّ ما يتفوّه به هؤلاء ليس من وحي الروح القدس .
ذكر أمثالاً كثيرة حول التنبؤ كموهبةٍ روحيّة من الله : النبي أغابُس الّذي تنبّأ بالقبض
على بولس الرسول و حذّره ( رسل 21 / 11 ) .
و كذلك أنبياء العهد القديم الّذين أنبأوا بكلمة الله و حذّروا من خطر عصيان الوصايا الإلهيّة .
يوضّح الرسول بولس أنّ موهبة التنبّؤ ، بالرغم من أنّها من وحي الله ، تظلّ محدودة لأنّ " معرفتنا ناقصة نُبوّاتنا ناقصة . فمتى جاء الكامل زال الناقص " ( 1 قور 13 / 9 – 12 ) .
* يقرنون التنجيم بالفلك حتى يغشونكم و يضللونكم :
علينا أن نميّز بين علم الفلك الفيزيائيّ " Astronomy " ، و التنجيم "Astrology "،
فالأوّل هو العلم الّذي يدرس وضعيّة الأفلاك السماويّة ،
و تحرّكاتها و طبيعتها الماديّة بهدف وضع قوانين علميّة لها .
أمّا الثاني أو ما يُعرف بالأوروسكوب ، أو الزودياك أو الأبراج ،
فهو وسيلة من وسائل العرافة ، يحاول أن يعرف و يُحدّد تأثير حركة الكواكب
و النجوم في الحياة الأرضيّة بهدف التنبّؤ بالأحداث المستقبليّة .
و يتبيّن لنا من هذين التعريفين أنّ الفرق شاسع بين التنجيم و علم الفلك .
فعلم الفلك هو علمٌ دقيق يخضع للمنهج علميّ واضح ضمن معايير علميّة معترفٍ بها ،
هدفه دراسة الأفلاك و الأجرام السماويّة و لا يفتّش البتّة عن أيّ تأثير لها في أحداث حياة الإنسان المستقبلية .
عندما يلجأ الإنسان إلى التنجيم فهو ، لا إراديًّا ، يعترف بأنّ للنجوم و الكواكب سلطة على حياته ، بما أنّها تسيّرها بحسب مساراتها و أوضاعها الفلكيّة ، و بالتالي فهو يعيد ممارسة وثنيّة ، ألا و هي عبادة الكواكب
و النجوم بطريقة غير مباشرة . و عندما يستعين بالعرافة ينكر أنّ لله سلطة على حياته
أو بتعبير آخر ، يُلغي الله من حياته .
و إذا أردنا أن نستشهد بآيات تندد بممارسة التنجيم ، من بداية العهد القديم ،
حتى سفر الرؤيا لضاقت هذه الصفحات ، راجع على سبيل المثال لا الحصر :
( 2 ملوك 17 / 16، تك 11 / 4، حكمة 13، تث 18، أحبار 19 / 26، أعمال 1 / 7،
أع 8 / 9، .
فلا عذر لنا بعد اليوم نحن الّذين عرفنا الإنجيل و أُبلغنا الرسالة السماويّة . إنّ دور الكنيسة كونها هيكل الروح القدس و جسد المسيح ،
ليس فقط أن تؤدّي الشهادة الإنجيليّة ، بل أن تدعو إلى عيشها و أن تحفظ الإيمان .
و إنّها تحظّر في تعاليمها من كلّ الممارسات الوثنيّة بما فيها التنجيم والعرافة .
* يجب نبذُ جميع أشكال العِرافة :
اللجوء إلى الشيطان أو الأبالسة و استحضار الأموات أو الممارسات الأُخرى المفترض خطأً
أنّها تكشف عن المستقل . فإنّ استشارة مُستطلعي الأبراج و المنجّين و قارئي الكفّ ...،
إنّها على تناقضٍ مع ما لله وحده علينا من واجب الإكرام و الاحترام .
إنّ تأثير النيّرات ( الأجرام السماوية ) في الحية الأرضيّة لا يتعدّى المستوى الفيزيائيّ ،
و هو نسبيّ للغاية . إنّه تأثيرٌ محدود و لا يطال مجال الإرادة و الحرّيّة الشخصيّتين .
إنّ ممارسة هذه الوسائل " الوثنيّة " استعباد للإنسان المدعوّ إلى عيش الحقّ الّذي يُحرّره .
فالحريّة الحقيقيّة ليست في الانجراف وراء ميول النفس و أهوائها ،
بل هي في الانضواء تحت راية المسيح و الاعتراف الصريح بقدراته الإلهيّة اللامتناهيّة
بأنّه الربّ و المخلّص الوحيد الّذي غلب العالم .
إنّ ممارسة التنجيم و العِرافة هي نقضٌ للعهد أو الميثاق
الّذي أقامه الله مع الإنسان .
هي انتقاض من حرّيّة الإنسان المخلوق على صورة الله و مثاله ،
الوكيل الّذي سلّطه الربّ على كلّ المخلوقات .
كما حياتنا ، فعلى ماذا يُحاسبنا الله ؟
أيُحاسب أناسًا مُجبرين غير مخيّرين ؟ و مَن نعبد ؟ الله أم الأفلاك ؟
الربّ يسوع المسيح هو سيّد الماضي و الحاضر و المستقبل .
فيه تمّت النبوءات و خُتمت جميعها .
وحده هو النجم الحقيقيّ الّذي سجد له المجوس المنجّمون
الذين بطلت أعمالهم .
و بقيامته ، عرفنا أن ! الموت ليس إلا عبورًا إلى الحياة الأبديّة .
فلا خوف مع المسيح و لا هلع من الغد الآتي
بل نحن نردد مع بولس الرسول : " الحياة عندي هي المسيح و الموت ربح ...
فلي رغبةٌ في الرحيل لأكون مع المسيح
و هذا هو الأفضل جدًّا جدًّا "
فل 1 / 21 ، 23 .
_________________ |