+نورد هنا شهادة كنيسة مضطهدة، ولكن يغمرها الفرح. مضطَهَدة ولكنها ذات رجاء واثق في من تؤمن به، إنها تستعيد اليوم من جديد سماتها هذه في عديدٍ من البلاد...
+لا عدائية، ولا انتقادية للباطل، في موقف هؤلاء المسيحيين، لا مَيل للذوبان في العالم، والجري وراء أساليبه المستحدثة، ولا رغبة مضادة في الأخذ بالانعزال والتميُّز عن الآخرين بأي علامات خارجية. المسيحيون يخضعون للقوانين، طالما هي لا تسير ضداً لضميرهم: في هذا الأمر الأخير قد رأينا في حالة الشهداء الأولين أنهم رفضوا عبادة الأوثان، ولكنهم في الوقت نفسه قبلوا –بكل رضى- العقوبة المنصوص عليها في القانون.
+مطلبهم الأساسي لم يكن قلب القوانين واستبدلها بغيرها، وإنما بأن يتساموا في سلوكهم على مقتضياتها. كانوا يحيون كأسرة واحدة متحابَّة، مثالها الذي يُحتذى هو القدوة الصالحة. وفي مجتمع كان يحكمه القانون الروماني الذي كان يعطي للملكية الفردية شرعية مطلقة، كانوا يعيشون حياة الشركة المسيحية بتلقائية حُرة لا إلزام فيها. وفي بيئةٍ ساد فيها فساد الأخلاق، وعشق الأجساد، مع قسوة بالغة لا مبالاة فيها نحو الأجنَّة والمولودين حديثاً الذين كانوا يُعدَمون بأية وسيلة؛ كان المسيحيون مثالاً في العفة واحترام المحبة الزوجية، وكانوا يرفضون الإجهاض والتخلي عن أطفالهم الصغار. وكانت اجتماعاتهم تتميز بالإتحاد في الإيمان الواحد، تسودها المحبة لله وللقريب، أي لكل إنسان أياًّ كان!
+كانوا يَسعون لأن يقابلوا الإساءة بالإحسان، وأن يخدموا الناس جميعاً بلا تفرقة. حتى ولو عارضتهم التقاليد السائدة أو ثارت ضدهم. لقد باركوا على الحياة، وعرفوا أن يجعلوها بركة للآخرين أيضاً، حتى في أوقات أشد الآلام وأطولها، وعندما كان يسود الإرتياب والغم على الكثيرين غيرهم.
+وها كنيسة القرن الثاني، والتي كان يغمرها فرح القيامة كما تشهد لها الرسومات الجليَّة التي تزين سراديب مقابر الشهداء، بمبادئها الروحية تتمكن بفطنة أن تطوِّر في العلاقات البشرية إلى الأفضل وعلى الوجه الأكمل.
+كانت الكنيسة الأولى –في آن واحد- تعي نفسها تماماً أنها جماعة ملوك وكهنة وأنبياء "مفروزون" لخلاصهم هم، ولخلاص العالم أيضاً. إن المؤمنين الحقيقيين العائشين في المجتمع والحاضرين في الكون، هم بسبب حضور الله فيهم بمثابة الروح للجسد؛ إذ هم يشهدون بنعمة الحياة الإلهية التي يحملونها في كيانهم والتي تُختبر وتَثْبت أمام كل الإهانات والإضطهادات وكل نوع من المقاومة كما في حالة الشهداء. فرح الكنيسة في وسط الضيقات يفتح للعالم المحتضر مجالاً متسعاً للغاية لكي يتنسم حياة تفوق حدوده المادية. إن المؤمنين الحقيقيين بصلاتهم وتقواهم وبرِّهم، هم للمجتمع مصدر حماية، وفي نفس الوقت، مصدرٌ للإلهام الخلاق. إن كل الإهانات التي يلاقونها منهم أداة خصب للعالم القفر من الروح.
+وهكذا يمكن للمسيحيين السالكين بالروح والحق أن يكونوا هم الأبرار الذين كانت تنقصهم مدينة سدوم، بل و"نور العالم"، و"ملح الأرض"، بحسب تعبيرات الإنجيل. كان إكليمندس الإسكندري يعتبر المسيحيين المستنيرين أنهم:
[بذار الله وصورته ومثاله، هم ابنه الحقيقي، والوارث له، وقد أُوفدوا من الآب إلى هنا، إلى هذا العالم في مهمة من أكل القصد الإلهي السامي نحو العالم.
فلأجلهم أُبدعت سائر الكائنات... وبسبب بقائهم هنا على الأرض كزرع مقدس حُفظ كل شيء، أمام إذا جُمع (وقت الحصاد)، فالكل سيقف أمام عرش الدينونة](1) – العلَّامة إكليمندس الإسكندري.
+الكنيسة هي الأساس السري Mystical الذي يقوم عليه العالم، ففيها تنمو المُثُل العليا التي يرتقي بها العالم، ومنها يمتد التاريخ ويتجه نحو اكتماله، فعندما يأتي أوان الحصاد ويضمحل العالم، ويُجمع الأبرار والأشرار، يكون ذلك إيذاناً ببدء تغيُّر هيئة المسيحيين –هذا إذا ما ظلوا أمناء على رسالة القيامة وتمسكوا حقاً بعهد الإفخارستيا. لذلك فهم منذ الآن في المجتمع كمثل الغابة وسط الأراضي المنزرعة، ذخيرة هائلة من الهدوء والسلام والحياة الحقيقية تسمح بالبقاء للكائنات الصالحة وباستمرارية التاريخ.
من أحد المخطوطات القديمة جداً –لمؤلف مجهول من القرن الثاني:
[المسيحيون لا يتميزون عن غيرهم من الناس، لا بالموطن ولا باللغة ولا بالثياب. إنهم لا يقطنون مدناً خاصة بهم، لا يستخدمون في الكلام أسلوباً غير مألوف، وطريقة حياتهم ليس فيها شيء غريب... إنهم يتوزعون في المدن الكبيرة مع اليونانيين والبرابرة، كلٌّ منهم بحسب نصيبه الذي يتيسر له، إنهم يتبعون نفس العوائد المحلية الجارية من جهة المَلْبَس والقوت ونمط الحياة... إنهم يقيمون كلٌّ منهم في وطنه الخاص، ولكن كغبراء نزلاء (على هذه الحياة الأرضية الفانية) إلى حين.
إنهم يتممون كل واجباتهم الوطنية على الوجه الأكمل، ويتحملون كل الأعباء بصبر دونما شكوى. كل أرض غريبة هي لهم بمثابة وطن (لأنهم لا يتعصبون لأرض أو عنصرية زائلة)؛ وكل وطن هو لهم أرض غُربةٍ (لأنهم يطلبون السماء وطناً باقياً لهم).
إنهم يتزوجون مثل كل الناس، وينحبون أطفالاً، ولكنهم لا يتخلون عنهم أبداً (كما يفعل الوثنيون). إنهم يتشاركون جميعاً في المائدة الواحدة، ولكن ليس في الفراش الواحد.
إنهم في العالم، ولكنهم لا يحيون بحسب العالم. إنهم يقضون حياتهم على الأرض؛ ولكنهم مواطنو السماء. إنهم يطيعون القوانين المشترعة؛ ولكن طريقة حياتهم تفوق هذه القوانين بكثير.
إنهم يحبون كل الناس، حتى ولو كان هؤلاء الناس يضطهدونهم، أو يتنكرون لهم، أو يذمونهم.
إنهم يُقْتَلون، ولكنهم بهذا يربحون الحياة الأبدية. إنهم فقراء؛ بَيْدَ أنهم يُغْنُون الكثيرين. إنهم مُعْوَزون في كل شيء، ولكنهم مكتفون ويفيض عنهم الكثير في كل ضروريات الحياة. إنهم يُحْتقرون ولكنهم في هذا الاحتقار يجدون مجدهم... يُفْتَرى عليهم غير أنهم يتبررون. يُلْعَنون فيُبَاركون...
وخلاصة القول: كمثل الروح بالنسبة للجسد، كذلك المسيحيون في العالم. فالروح مُنْبثَّة في كل أعضاء الجسد، كذلك المسيحيون منتشرون في كل مدن العالم. الروح تسكن في الجسد (وهي ليست منه) كذلك المسيحيون يعيشون في العالم، ولكن ليسوا منه. الروح غير مرئية مستقرة في جسد مرئي، هكذا المسيحيون يُرَوْن جيداً في العالم، ولكن تقواهم لله تبقى غير مرئية من الآخرين بعيني الجسد. الروح مُغلَق عليها في الجسد، ومع هذا فهي التي تُبقي على استمراريته في الحياة. والمسيحيون يحيون كمقيدين في سجن العالم؛ بيد أنهم هم الذين يصونون العالم (بصلواتهم وطلباتهم عن العالم)...
الروح تصير إلى حالة أفضل إذا ما تطهرت من شهواتها بالجوع والعطش؛ كذلك المسيحيون إذا ما اضُّطهدوا تنمو حياتهم الروحية وتتقدم يوماً فيوماً. المكان أو الخدمة أو المنصب الذي يختاره لهم الله –وضيعاً كان أم شريفاً- لا يسمحون لأنهم أبداً أن يتركوه](2) – من الرسالة إلى ديوجنيتس.
من أقوال آباء الرهبنة:
[سُئل أيضاً (القديس إبيفانيوس): "هل بار واحد يكفي لإرضاء الله وصفحه (عن الخطاة)؟" فأجاب قائلاً: "نعم، لأنه هو نفسه قد قال: "فتشوا عن إنسان واحد يحيا بحسب البر، فأصفح عن كل الشعب"](3).
________
مقالات مترجمة عن كتاب:
SOURCES: Les Mystiques Chrétiens des
Origines - Olivier Clément
منابع الروحانية المسيحية في أصوولها الأولى - الفيلسوف الفرنسي العاصر والعلم الأبائي أوليفييه كليمانت
ترجمة وإعداد رهبان دير القديس أنبا مقار