joulia المدير العام


عدد المساهمات : 11984 نقاط : 15820 تاريخ التسجيل : 11/10/2014 الموقع : لبنان
 | |
joulia المدير العام


عدد المساهمات : 11984 نقاط : 15820 تاريخ التسجيل : 11/10/2014 الموقع : لبنان
 | موضوع: رد: موضوع متكامل عن شخصيّة قايين الخميس يناير 29, 2015 4:38 pm | |
|
| الحسد . .
والحسد هو الرذيلة النكراء التي تملكت قايين وأسقطت وجهه، عندما رفض الله تقدمته وقبل تقدمة أخيه، وهي الرذيلة الوحيدة التي يقول عنها ال**ندر هوايت أنها تولد وتنمو وتثمر في الحال، إذ يكفي أن ترى غيرك يفضل عليك، حتى تشعر في التو واللحظة أن نيران الجحيم بأكملها قد استعرت فيك؟!! ومن القديسين من نجح في مكافحة كثير من الرذائل ولكنه سقط في رذيلة الحسد!! ولقد قيل إن الشياطين عجزت ذات مرة عن إسقاط أحد الرهبان!! مع أنهم جربوه بأنواع مختلفة من التجارب، وإذ اشتكوه إلى رئيسهم قال: دعوه لي، ثم ذهب إليه وقال له: هل علمت أن زميلك اختير أسقفاً على الإسكندرية، وكان هذا كافياً لإسقاطه!!.. ما أحوجنا جميعاً إلى روح وصلاة توماس شبرد مؤسس جامعة هارفورد، ذلك الرجل الذي جرب ذات مرة بأن يحسد زميلاً شاباً من الخدام، لأن مواعظه أخذت المكان الأول على صفحات الصحف، بينما أخذت مواعظه هو مكاناً منزوياً خفياً، وذات يوم ظهرت عظة للشاب قرأها الجميع، وكانت موضع الحديث والتقدير والإعجاب!! وما أن سمع شبرد الناس يتحدثون عنها حتى استعرت نيران ملتهبة في أعماق نفسه، فدخل إلى مكتبه، وهناك اجتاز في تلك الليلة جثسيماني، وفي منتصف الليل انبطح على وجهه في أرض الغرفة، وهو يصارع بعرق ودموع العاطفة البغيضة التي استولت عليه، وقبيل الفجر، كان قد انتصر تماماً، إذ أخذ يصلي بنفس هادئة، ومحبة عميقة، ليبارك الله أخاه وزميله الواعظ، لكي ينجح ويتقدم أكثر فأكثر.. وكانت هذه بمثابة نقطة التحول في حياة الواعظ البيورتاني العظيم!!. وسمع التاريخ عنه، أما زميله الواعظ فلا نكاد نعرف حتى مجرد اسمه!!
الأنانية وحب الذات . .
وهل هناك من شك في أن قايين كان أنانياً، بل كان غارقاً في الأنانية وحب الذات؟!! ألم ير الدنيا وكأنما هي أضيق من أن تتسع له ولأخيه، وكأنما لا تستطيع أن تحملهما معاً متعاونين متحابين متساندين؟!! بل ألا تبدو هذه الأنانية في قوله لله: "أحارس أنا لأخي" وهي عبارة إن دلت على شيء، فإنما تدل على الإثرة والذاتية وعدم الاهتمام بالآخرين؟!! ومن له في الدنيا أفضل من هابيل، ومن رعايته وحراسته والحدب عليه؟!! ولكنها هي الأنانية التي لا تفكر في الواجب، بل ترى فيه، وفي الاهتمام بالغير، ثقلاً وعبئاً ونكراً، حتى ولو كان هذا الغير هو أعز وأقرب الناس إلينا، أو في لغة أخرى، هو أخونا ابن أمنا وأبينا!!.. لم يقل قايين قولة لويس الخامس عشر المنكرة: أنا وبعدي الطوفان!! لأن الطوفان لم يكن قد جاء بعد ليغرق الدنيا بأكملها، ولكنه أثبت بما قال وفعل أنه أبو لويس وأبو الأنانيين جميعاً على اختلاف أجناسهم ولو أنهم في كل العصور والحقب والأجيال!! هناك صورة مشهورة لمصور بريطاني عنوانها: "أحارس أنا لأخي" وهي عبارة عن مقعد حجري على نهر التيمز، وقد جلس عليه ستة أو سبعة من التعساء البؤساء المشردين، ممن لم يكن لهم مكان في المدينة، فأتوا إلى ذلك المكان ليقضوا فيه ليلتهم، وتراهم في الصورة وقد ناموا وهم جلوس على المقعد، وكان ثلاثة منهم من العمال العاطلين، ورابع من الجنود المسرحين، وإلى جواره امرأة تحتضن طفلها وتميل برأسها على زوجها الجالس إلى جانبها، والجميع مستغرقون في النوم، وعلى مقربة من المكان فندق عظيم، يتلألأ بأنواره الفخمة التي يسكبها هنا وهناك!!.. والمعنى الذي يقصده المصور من صورته هذه، واضح وظاهر، إذ أن هؤلاء البؤساء ليس لهم مكان بين أخوتهم من رواد الفندق الفخم القريب!!
الخداع والمكر . .
والخداع والمكر من الصفات البارزة في قايين والتي دعته إلى أن يخفي في نفسه أمر مؤامرته وغدره، ثم يدعو أخاه إلى الحقل دون أن يستبين هذا من الأمر شيئاً، وقد قيل في بعض التقاليد أنه تحدث إلى أخيه مهنئاً إياه على الذبيحة التي قبلها الله، وقيل في تقاليد أخرى، أنه دعا أخاه ليذهب وإياه إلى الحقل للتريض والنزهة!! وسواء صح هذا الرأي أو ذاك أو لم يصح فمن المؤكد أن شيئاً خبيثاً شريراً كان يلمع في عيني قايين، وأن هابيل الوادع الآمن لم يستطع تبينه ومن ثم ذهب ضحية ثقته بأخيه الذي لم يكن أهلاً لهذه الثقة!!
الكذب . .
وكذلك قايين واضح في الجواب الذي رد به على الله عندما سأله قائلاً: "أين هابيل أخوك" إذ قال: "لا أعلم"، وليس عجباً أن يكذب قايين، بل العجب ألا يكذب وهو من الشرير ، أي من ذاك الذي قال عنه المسيح "متى تكلم بالكذب فإنما يتكلم مما له لأنه كذاب وأبو الكذاب" (يو 8: 44) والكذب من الصفات الأصيلة في الأشرار والشياطين، إذ هم بطبيعتهم منحرفون عن الحق، وكارهون له!! ومن ثم فالشيء من معدنه لا يستغرب، وكل إناء ينضح بما فيه كما تذهب وتقول الأمثال!!
العالمية . .
ونقصد بالعالمية ههنا ما ذهب إليه أوغسطينس عندما تحدث عن الفرق بين قايين وهابيل في كتابه العظيم: مدينة الله إذ قال: "إن قايين، مؤسس مدينة العالم، ولد أولاً، ودعى قايين أي اقتناء، لأنه بنى مدينة، وبذلك انصرف انصرافاً كلياً للاهتمام بأمجاد العالم وهمومه، ولقد اضطهد ذاك الذي اختير من العالم، أما هابيل فهو أول سكان مدينة لله، وقد ولد ثانياً، وقد أطلقه عليه الاسم هابيل أي البطل، لأنه أبصر بطل العالم، وقد خرج من العالم بموت غير عادي، وهكذا جاء الاستشهاد على الأرض مبكراً، ومن أسف أن الرجل الأول الذي مات من البشر مات من أجل الدين". وإن كنا لا نتفق مع أوغسطينس في الربط بين معنى الاسم قايين والمدينة التي بناها ذلك الرجل القديم، إلا أننا نؤيده تماماً في أن قايين خرج من لدن الرب، ليسكن في أرض "نود" أو أرض "البعد" حيث وضع هناك أساس المدينة المستقلة المنعزلة المتباعدة عن الله!! ولقد ضرب بنوه في هذه المدينة بسهم وافر من الحضارة إذ كان منهم يوبال الذي كان أباً لكل ضارب بالعود والمزمار، وتوبال قايين الضارب كل آلة من نحاس وحديد، ولكنها -أي المدينة- مع ذلك عجزت عن أن تتحقق لهم الراحة والسعادة والبهجة والسلام، إذ ولدت بعيدة عن الله، وفي أحضان الشر والشهوانية والفساد والإثم!! قايين والخطايا المميتة التي ارتكبها رغم تحذير الله . .
أما وقد أدركنا طبيعة قايين الشريرة فلنتحول قليلاً لنتأمل الخطايا المميتة التي ارتكبها هذا الرجل، وتزداد هذه الخطايا بشاعة ورهبة وشناعة إذا لاحظنا أن الله لم يتركه ليقدم عليها أو يندفع فيها دون تنبيه أو تحذير!!
وهذه الخطايا هي:
خطية عدم الإيمان . .
وهي أول خطية يبرزها ويحددها الكتاب لنا، وتتمثل في القربان الذي قدمه قايين إلى الرب من ثمار الأرض، على العلم من أخيه الذي قدم ذبيحة لله من أبكار غنمه ومن سمانها!! ولا أحسب أن هناك كلمات أفخم وأدق وأروع من كلمات دكتور أ.ب. سمبسون عندما وصف الاثنين بالقول: "إن الرجلين اللذين وقفا على أبواب عدن ليعبدا الله يمثلان الجنس البشري في انقسامه إلى مؤمنين وغير مؤمنين!!. أما الرجل الأرضي فيبدو في ديانته كما لو أنه أكثر طرافة وكياسة وجمالاً، إذ يقدم من أثمار تعبه ومن أولها وأحسنها!! أو في لغة أخرى، أنه يقدم زهور الربيع العطرة النقية، وثمار الصيف الناضجة الغنية، وربما بدا مذبحه أكثر بهاءً وجمالاً إذا قورن بالمذبح الخشن غير المصقول الذي قدم هابيل عليه الذبيحة العاصية والتي تبدو في صفرة الموت لحمل دام محتضر ملتهب!! غير أن تقدمة قايين في جملتها ليس إلا نكراناً تاماً شاملاً لكل ما قال الله عن لعنته للأرض وأثمارها، وعن حقيقة الخطية والحاجة إلى مخلص مكفر، الأمر الذي أوضحه الله لآدم وحواء عندما صنع لهما أقمصة من جلده، والذي لا شك أنه أكده أكثر من مرة في تعاليمه ووصاياه لكليهما!! ولم تكن ذبيحة هابيل صوى اعتراف وديع متضع بكل هذه، وقبول صريح واضح لطريقة الله
في الغفران والقبول".
والواقع أن كاتب الرسالة إلى العبرانيين يتحدث بكيفية جازمة عن هذه الحقيقة بالقول: "بالإيمان قدم هابيل لله ذبيحة أفضل من قايين"، وهل يمكن أن يكون هناك إيمان ما لم يكن هناك إعلان سابق يثق به هذا الإيمان ويرجوه ويعتمد عليه؟!! أجل فهابيل لم يقدم ذبيحته لمجرد التصور أو الاستحسان البشري بل لابد أن الله أعلن من البدء للبشر بوضوح وجلاء أنه "بدون سفك دم لا تحصل
مغفرة"!!
والعمل الأول للإيمان هو أن نثق بما يقول الله عن الخطية!! ولا عبرة بعد ذلك بما يمكن أن يقوله الفكر أو الشعور عنها، فإذا حلا لبعض الفلاسفة والملحدين تجاهلها. فلن يفيد هذا التجاهل شيئاً، وستبقى الخطية رغم ذلك أرهب حقيقة عرفها التاريخ البشري، وإذا زعم غيرهم أن الخطية ضرورة من ضرورات الاجتماع، فزعمهم كاذب وليس الحق فيه، وستبقى الخطية كما قال عنها الآباء الأولون: إنها إرادة الإنسان الفاسدة تعاند إرادة الله المقدسة، أو كما قال عنها اليهود: إنها العجز عن بلوغ الهدف، أو كما قالوا عنها أيضاً: إنها خضوع الإنسان لرغبات الجسد التي تقاوم إرادة الله، أو كما وصفها الكتاب في تعبير دقيق جامع مانع بالقول: "والخطية هي التعدي" (1يو 3: 4) وأياً كان نوع هذا التعدي ووجهته، وسواء كان موجهاً ضد النفس، أو ضد الآخرين، أو ضد الله مباشرة، فهو على أي حال التعدي الذي يستجلب غضب الله ودينونته ونقمته. وما يصح في القول عن الفكر يصح في القول عن الشعور أيضاً، إذ لا ينبغي أن نزن الخطية أو نقيسها بميزان أو مقياس الشعور، إذ يكفي أن نؤمن بأننا خطاة لأن الله قال هكذا!! وهذا ما فعله هابيل إذ أخذ مكانه كخاطيء فوجد في الحال سبيله إلى الخلاص من خطيته!! على العلم من أخيه الذي كان الشعور هو المضلل الأكبر له، إذ لم يشعر في البداءة بخطيته، أو بحاجته إلى الخلاص!! وعندما شعر بالخطية في النهاية، كان شعوره أفدح وأثقل من اللازم، وأدعى إلى اليأس والقنوط، الأمر الذي دعاه يصرخ صرخته المرة: "ذنبي أعظم من أن يحتمل".
على أنه لا يكفي أن يثق الإنسان بما يقوله الله عن الخطية، بل ينبغي أن يثق بما يقوله أيضاً عن الخلاص، وقد قال الله في كلمته في هذا الشأن، فأبى قايين أن يصدقها، وقبلها أخوه بإيمان وخضوع وتسليم، والجنس البشري كله لا يخرج في جميع العصور والأجيال عن واحد من اثنين إما منكر لهذه الكلمة أو مصدق لها، كيف لا والصليب هو الحقيقة الكبرى التي كانت ترمز إليها جميع الذبائح في العهد القديم و"كلمة الصليب عند الهالكين جهالة وأما عندنا نحن المخلصين فهي قوة الله.. لأن اليهود يسألون آية واليونانيين يطلبون حكمة. ولكننا نحن نكرز بالمسيح مصلوباً لليهود عثرة ولليونانيين جهالة وأما للمدعويين يهوداً ويونانيين فبالمسيح قوة الله وحكمة الله لأن جهالة الله أحكم من الناس وضعف الله أقوى من الناس" (1كو 1: 18، 22-24).
كان الاسكتلندي العجوز يركب عربته ذات يوم، وإذا به يسقط تحت ثقل خطاياه، وتبادره نفسه بهذا السؤال الملح: "ماذا تقدم لله لكي يرضى عليك؟!" وفكر في أن يقدم دموعه وخدماته وعهوده وإصلاحاته ولكن هذه جميعها لم تعطه الراحة والأمن والسلام!! وإذا به يسمع صوتاً هامساً من الأعماق يقول له: قدم المسيح!! وإذ قدمه امتلأت حياته كلها بالفرح والبهجة والسلام والسعادة!! ومن الملاحظ أن الله لم يهمل في أن ينبه قايين، بعد أن رفض تقدمته، إلى أنه يحسن أو لا يحسن بالقدر الذي يرفع الذبيحة أو لا يرفعها وهكذا تكشف لنا هذه القصة القديمة إلى أي حد يهتم الله بإعلان سياسته الثابتة الأبدية في الخلاص!! 
|
|
| |
|
joulia المدير العام


عدد المساهمات : 11984 نقاط : 15820 تاريخ التسجيل : 11/10/2014 الموقع : لبنان
 | |
joulia المدير العام


عدد المساهمات : 11984 نقاط : 15820 تاريخ التسجيل : 11/10/2014 الموقع : لبنان
 | موضوع: رد: موضوع متكامل عن شخصيّة قايين الخميس يناير 29, 2015 4:40 pm | |
|
| قايين والعقاب المريع الذي أصابه نتيجة خطاياه . .
بعد أن تحدثنا عن قايين وطبيعته الشريرة، والخطايا المميتة التي ارتكبها، يجدر بنا أن ننتهي بالحديث عن العقاب المريع الذي أصابه نتيجة خطاياه، وهذا العقاب إن تحدث عن شيء، فإنما يتحدث قبل كل شيء عن عدالة الله الساهرة الحية التي لا تموت، وقد بدت هذه العدالة في قصة قايين في أكثر من مظهر إذ كانت أولاً العدالة الكاشفة، أو العدالة التي لا يمكن أن يخفي عليها شيء، أو تبهم لديها الأمور، بل هي العدالة التي تزن الظاهر والخفي بميزان دقيق وهي أيضاً العدالة الساهرة التي لا تغفل أو تنام، بل ترقب وتلاحظ كل ما يجري على الأرض، وترى من حقها التدخل بين الإنسان وأخيه،
إذ أن حقها في الواقع أسبق على كل حق، بل أساس كل حق، ومصدر كل حق.. وقد يتصور قايين أنه ليس لأحد حق محاسبته أو محاكمته على ما فعل، ولكنه سرعان ما يتبين أنه واهم، وأن ديان كل الأرض، قد أوقفه أمام كرسيه ليعطي حساباً عما فعل ضد أخيه.. وهي إلى جانب ذلك العدالة الطيبة التي تفزع لموت هابيل، وتستمتع إلى صرخات دمه المرتفعة من الأرض، لتقتص له من قاتله، محققة ما قاله المرنم: "عزيز في عيني الرب موت أتقيائه".. وعلى أي حال فإن عقاب قايين كان عقاباً شاملاً تناوله من كل جانب من جوانب الحياة، وقد ظهر بوضوح على الأقل في أربعة مظاهر:
الفشل الروحي
وقصة قايين بجملتها ليست إلا قصة الفشل الروحي العميق، على أوسع ما تشمل عليه كلمة الفشل من معنى، لقد دعته أمه قايين أي "اقتناء" إذ قالت: اقتنيت رجلاً من عند الرب" والرأي الراجع أنها دعته بهذا الاسم وهي تعتقد أنه النسل الموعود الذي سيسحق رأس الحية، والذي سيثأر لها من عدوها المكروه البغيض، الذي أخرجها وزوجها ونسلها من جنة عدن بالتجربة والكذب والخداع، ولعل كلمات ال**ندر هوايت هي خير ما يمكن أن يقال هنا على وجه الإطلاق!! قال هوايت: "لقد أخطأت حواء في فهمها لقايين إذ ظنته يسوع المسيح!! وعندما رأته يوم مولده لم تعد تذكر حزنها، إذ كانت المرأة المبتهجة السعيدة!!..
بل إن جنة عدن بكل ما فيها من أزهار وثمار لم تعد تصبح بعد موضع الاهتمام أو التفكير من اليوم الذي تدانت فيه السماء من الأرض، واقتنت حواء ابنها البكر من عند الرب!! وليس عجباً أن تخطيء حواء في فهم قايين إذ يكفي أن تضع نفسك موضعها!! لقد جلبت هذه المرأة على نفسها وعلى زوجها الطرد إذ أصغت لأبي الكذاب!!
ولكن الله جاءها في محنتها ويأسها، وفتح لها كتاب وعوده بأفضل وعده إذ وعدها بأن نسل المرأة سيسحق رأس الحية، وبذلك يفتديها من كل الشر الذي جلبته على نفسها، وعلى زوجها.. والآن تبارك الرب هوذا نسلها بين يديها، وها هو يأتيها في صورة حلوة مبهجة للقلب، سماوية، في صورة رجل من عند الرب!! فهل تكون حواء بعد ذلك جاحدة القلب ملحدة المشاعر وهي تنظر إلى ابنها على اعتبار أنه النسل الموعود؟؟ وهل تكون مخطئة إذا قالت هذا هو إلهنا الذي انتظرناه، الإله الذي جاء لنا برجل من عنده؟!!
ومع كل هذا فنحن نعلم أن قايين لم يكن المسيح!! وأن ملاك البشارة الواقف في حضرة الله عبر عن حواء وسارة وراحيل وحنة وأليصابات وسائر النساء الأخريات في إسرائيل، وجاء إلى عذراء مخطوبة لرجل اسمه يوسف، وقال لها: "سلام لك أيتها المنعم عليها، الرب معك، مباركة أنت في النساء" "فقالت مريم تعظم نفسي الرب".. أجل لم يكن قايين هو النسل الموعود، أو على الأقل، الأمل الباسم، والأغنية الطروب، واللحن الشادي، في أرض متعبة!! بل كان الإنسان الذي تمثلت فيه المأساة والفشل وخيبة الأمل، على أوسع صورها وأرهب معانيها!! لقد كان عند أبويه في بدء حياته حلماً جميلاً، ولكن سرعان ما تحول إلى كابوس مريع ليس لأبويه فحسب بل لنفسه وأخيه وجميع المتصلين به أو الآتين من نسله!! أجل فليس هناك شيء يبدد الأحلام، ويضيع الأمل كما تفعل الخطية!!
العوز المادي
لم نعلم كم عاش قايين من السنين، وكم طال به العمر، لكننا مع ذلك نعلم أنه عاش طوال حياته في عوز مادي، وفي احتياج دائم، إذ لعنه الله بضيق ذات اليد، في القول: "فالآن ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك. متى عملت الأرض لا تعود تعطيك قوتها" أو في لغة أخرى، إنه وجد الشوك في موضع الزهور، ووجد الحسك في موضع البقول، ووجدت اللعنة الدائمة تصاحب ما يزرع ويستنبت، اللعنة التي ذكرها الكتاب عن جماعة تمشت في طريقه عندما قال: "زرعتم كثيراً ودخلتم قليلاً. تأكلون وليس إلى الشبع. تشربون ولا تروون، تكتسون ولا تدفأون، والآخذ أجره يأخذ أجره لكيس منقوب.. انتظرتم كثيراً وإذا هو قليل ولما أدخلتموه نفخت عليه.. لذلك منعت السموات من فوقكم الندى ومنعت الأرض غلتها ودعوت بالجر على الأرض وعلى الجبال وعلى الحنطة وعلى المسطار وعلى الزيت وعلى ما تنبته الأرض وعلى الناس وعلى البهائم وعلى كل أتعاب اليدين" أجل فلقد لحقت اللعنة قايين في كل هذه، فكان في عداء دائم مع المحصول الوفير. واللقمة الهانئة، والعيش الرغيد، والحظ الحسن -إن جاز أن نستعمل هذا التعبير- وهكذا أدرك أن الخير المادي كالروحي سواء بسواء يرجع إلى أمر الله ومشيئته وإرادته دون أن يرجع في قليل أو كثير إلى حكمة الإنسان أو يقظته أو تعبه أو مجهوده أو عمله أو ما أشبه مما يظن الناس أنها تحدد المعايش والأرزاق على هذه الأرض!!
التعب الجسدي
لم تكن لعنة قايين في ذلك العوز المادي الذي سيصاحبه طوال الحياة فحسب بل كانت في التعب الدائم الذي يحرم عليه الاستقرار في بقعة واحدة من الأرض، لقد كان عليه أن ينتقل من مكان إلى مكان سعياً وراء الرزق بما يصاحب هذا الانتقال من تعب وضيق ومشقة، لقد عاقبه الله بالقول: "تائهاً وهارباً تكون في الأرض" والكلمة العبرانية المترجمة "تائهاً" تشير في الأصل إلى حالة التردد والاضطراب والتيه التي تصاحب الإنسان الحائر الذي لا يعرف أين يتجه، أو المعيي الذي يسقط من الجوع، فإذا أضيفت إليها حالة الهروب أو الحالة التي تنشأ من الفزع والخوف وعدم الاطمئنان، أدركنا إلى أي حد كان قايين أشبه بالرحالة المكدود الذي يسعى في البيداء المقفرة أو الجواد التعب الذي يقطع الفيافي من غير هدف!! وهكذا يؤكد الكتاب لنا أن الله لا يمنح أو يمنع اللقمة النهائية فحسب بل يمنح السكن المريح أو الوسادة اللينة!!
العذاب النفسي
وهو العذاب الذي سجله قايين في القول:
"ذنبي أعظم من أن يحتمل إنك قد طردتني اليوم عن وجه الأرض ومن وجهك أختفي وأكون تائهاً وهارباً في الأرض فيكون كل من وجدني قتلني"
والشراح مجمعون على أن هذه اللغة ليست بحال ما لغة الاعتراف والتوبة، بل هي لغة اليأس والقنوط لمجرم هاله الحكم القاسي الذي صدر ضده، ومما يشجع على هذا الاعتقاد أن الكلمة "ذنبي" يمكن أن تترجم "عقابي"، والواقع أن قايين كان مأخوذاً بالعقاب أكثر من إحساسه بالجرم!! وكان مدفوعاً بالخوف، أكثر من اندفاعه بالتوبة، ولعل هذا يبرز بوضوح في القول:
"كل من وجدني يقتلني"
وأين يوجد هذا القاتل والأرض لم تعمر بعد؟!! أهو الخوف من الوحوش كما يزعم بعض المفسرين ممن يقولون أن الكلمة "من" يمكن ترجمتها "ما" وبذلك ينصرف المعنى إلى وحوش الفلاة والبرية؟!! أو هو الخوف من المستقبل حين تأتي ذراري أخرى من آدم تثأر منه للمقتول، كما يذهب آخرون؟!! لا ندري وكل ما ندريه أن صيحته هنا على أي حال ليست إلا صيحة الضمير في قصيدة رائعة، يرينا فيها قايين الرحالة المتعب، وهو يفزع من نجوم الليل، وهمهمة الرياح وخشخشة الأوراق، وصوت العصافير، ويتوهم أنها ضواري كواسر توشك أن تنقض عليه، وتفتك به!! بل رأينا إياه صريع الأرق والضيق والوسوسة والمخاوف! أجل ليس هناك أرهب من صوت الضمير إذا تيقظ، وأقصى من عذاباته إذا حاسب ودان!! والفنان المشهور فيرناند كوكمون يرنا قايين في أخريات حياته، وحوله من تبقى من نسله، وما يزال هو الإنسان المتعب التائه الزائغ البصر الذي يندفع في طريقه دون أن يلوى على شيء أو يستقر على قرار إذ هو أشبه الكل باليهودي التائه الذي حقت عليه لعنة الله بعد أن صلب المسيح!!
على أننا لا يمكن أن ننتهي من الحديث عن قايين دون أن نذكر تلك العلامة التي أعطاها له الله لكي لا يقتله كل من وجده، ونحن لا نعلم ما هي؟!! أهي تحول غريب في وجهه كما تزعم بعد التقاليد اليهودية؟!! أم تغير تام في لون جلده؟!! أم هي نوع من الملابس كان عليه أن يرتديه؟!! أم شيء يشبه القرن نبت في رأسه؟!! أم علامة على جبينه؟!! أم غير ذلك من العلامات؟!! لا نعلم، ومن العسير على أحد أن يجزم بنوع هذه العلامة وهيئتها؟!! ولكنها إن تحدثت وأكدت شيئاً فإنها تتحدث وتؤكد أن الله لا يحاكم إلى الأبد ولا يحقد إلى الدهر، وإنه في وسط الغضب يذكر الرحمة، وأنه حتى قايين الآثم الشرير الذي لم يرحم أخاه يمكن أن يجد رحمة عند الله.
ليت إيمان قايين كان قد اتسع لرحمة أشمل وأعم عند الله، ولم يخف فقط من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها بل خاف بالحري من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم، إذاً لشملته رحمة الله، ولالتقى هو وأخوه في السماء في ظلال ذلك الذي هو وسيط عهد جديد، ودمه الذي هو دم رش يتكلم أفضل من هابيل.
|
|
| |
|
سعاد الادارة العامة


عدد المساهمات : 22227 نقاط : 30251 تاريخ التسجيل : 10/10/2014 الموقع : لبنان
 | |
هيلين المشرف العام


عدد المساهمات : 952 نقاط : 1034 تاريخ التسجيل : 10/10/2014 الموقع : لبنان
 | موضوع: رد: موضوع متكامل عن شخصيّة قايين الأربعاء يونيو 17, 2015 11:09 am | |
| موضوع جداً مميّز بارك الرب حياتك اخت جولي | |
|
joulia المدير العام


عدد المساهمات : 11984 نقاط : 15820 تاريخ التسجيل : 11/10/2014 الموقع : لبنان
 | موضوع: رد: موضوع متكامل عن شخصيّة قايين الإثنين يوليو 13, 2015 10:46 am | |
| | |
|