الصّلاة همزة الوصل داخل جسد المسيح.
ما أراده المسيح في الأساس هو توحيد البشر في المحبّة، ( الله محبّة). فهو في حدّ ذاته شراكة أشخاص يحبّ واحدهم الآخر في وحدة الرّوح القدس بحيث أنّهم واحد. وبما أنّ الله محبّة، فهو عطاء، ( الله الخالق). عطاء ذاته وخالق صورته ومثاله: أشخاص بشريّون عديدون ومتنوّعون لكنّهم متّحدون في جماعة محبّة في " وحدة الرّوح القدس". وتتجلّى لنا هنا صورة الكنيسة أي الجماعة، وهي يسوع المسيح الموجود بشكل جماعة. ولننظر إليه يعمل في العالم:
" إن يسوع مزمع أن يموت عن الأمة، وليس عن الأمة فقط، بل ليجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد. (52:11) إذاً، الكنيسة كما أرادها المسيح ، نراها كلّها في تجمّع البشر الّذين يؤمنون بيسوع المسيح ويحبّ بعضهم بعضاً، بحيث أنّهم يريدون بناء جماعة أخوّة حقيقيّة على صورة ومثال الثّالوث الإلهيّ.
وفي الواقع تبدأ الكنيسة كلقاء إخوة، كصداقة وكجماعة إيمان وحياة وكمشاركة في كلّ شيء. " وكانوا مواظبين على تعاليم الرّسل والشّركة في كسر الخبز والصّلوات.. وكان جميع المؤمنين معاً وكان كلّ شيء مشتركاً بينهم.. ويلازمون الهيكل كلّ يوم بنفس واحدة ويكسرون الخبز في البيوت ويتناولون الطّعام بابتهاج ونقاوة قلب..
وكان الرّبّ كلّ يوم يضمّ الّذين يخلصون إلى الكنيسة ". ( أعمال الرّسل 47،42:2).
وفي أعمال (32:4)، وكان جماعة المؤمنين قلباً واحداً وروحاً واحدة، لا يدّعي أحدهم ملك ما يخصّه، بل كانوا يتشاركون في كلّ شيء لهم ." خير الفرد للجماعة كلّها، وليس ملكاً للفرد الواحد. إذ إنّ كلّ ما نمتلكه هو عطيّة الله وبالتّالي لا يحقّ للفرد أن يمتلك عطيّة الله له وحده.
وإذا كنّا نؤمن بالشّركة بين الإخوة وببنوّتنا لله، فلأخي حقّ في ما وهبني إيّاه الله بدون استحقاق منّي، بل بنعمة مجّانيّة منه. عيش الشّراكة بين الإخوة هي صورة المسيح، وبوحدتنا قلباً وروحاً نبشّر العالم أنّ الآب أرسل الإبن لخلاص العالم. التّبشير ليس أن نخبر النّاس مضمون الكتاب المقدّس، فالوسائل الإلكترونيّة اليوم تساهم إلى حدّ كبير بذلك.
التّبشير هو أن نعلن حبّ الله للعالم بيسوع المسيح، وأن ندله على الحبّ الإلهيّ من خلال حبّنا لبعضنا البعض. ومن خلال عيش الشّركة نثبت للعالم أنّ المسيح الحيّ، القائم من بين الأموات هو الحبّ المتجسّد الّذي لمسناه ورأيناه وسمعناه. ويصلّي يسوع للآب قائلاً: " أنا فيهم وانت فيّ لتكون وحدتهم كاملة ويعرف العالم أنّك أرسلتني وأنّك تحبّهم مثلما تحبّني"(يوحنا23:17).
الإنجيل (الخبر المفرح ) الّذي يعرّف العالم على المسيح هو وحدتنا، كما الآب والابن واحد. وحدتنا صورة تعكس وحدة الثّالوث الإلهيّ ( العائلة الإلهيّة). ولكم نحن مقصّرون في عيش هذه الصّورة، لا بل وللأسف نشوّهها أحياناً في سلوكنا الخارج عن المحبّة والشّركة. وإذا كنّا نؤمن حقيقة بما قاله الرّبّ، أنّه الكرمة ونحن الأغصان، وكما يقول بولس الرّسول، أنّنا أعضاء جسد الرّبّ ، فعلينا أن نعي أهمّيّة الشّركة المسيحيّة داخل جسد الرّبّ.
فإن تألّم عضو واحد في الجسد، فالجسد كلّه يتألّم. كذلك إن نعم عضو واحد نعم الجسد كلّه. خير الفرد يطال الجسد كلّه، كما شرّ الفرد يطال الجسد كلّه. نحن مرتبطون بالرّب ارتباطاً جسديّاً وليس روحيّاً فقط، كما أنّنا إخوة بالدّم بيسوع المسيح وليس بالرّوح وحسب. أهمّ ما يؤسّس لشركتنا الأخويّة ويؤكّد محبّتنا لبعضنا البعض، هي الصّلاة من أجل بعضنا البعض.
والصّلاة ليست أن نتلو كلمات محفوظة عن ظهر قلب في وقت محدّد ولمدّة محدّدة، بل هي تواصل مستمرّ بين الله والجماعة. فنحن حين نصلّي نقول: أبانا الّذي في السّماوات "، وليس أبي ، حتّى ولو كان كلّ منّا يصلّي بمفرده، ذلك لأنّنا واحد في الرّبّ. وبالتّالي لا يمكننا بعد الآن أن نمتلك الله لنا وحدنا، ونؤكّد بذلك أنّنا نحمل في فكرنا وقلبنا وروحنا كلّ الإخوة في شركة حقيقيّة.
نحن نتشفّع لبعضنا البعض، وخطايانا لا تقف حاجزاً أمام تلك الشّفاعة، لأنّ الله أكبر من خطايانا وسلوكنا. في صلاتنا لبعضنا البعض نلمس قلب من لا يصلّي وربّما دون إدراك منه. إنّ صلاة استيفانوس يوم كان يُرجم بالحجارة حتّى الموت على مرأى من عيون "شاول" لمست قلبه وحوّلته المحبّة الإلهيّة إلى بولس رسول الأمم. ولو عدنا إلى العهد القديم (تك32:18) ، ونقرأ ما قاله ابراهيم : " لا يغضب سيّدي فأتكلّم لآخر مرّة :
وإن وجدت هناك عشرة صدّيقين؟ قال الرّبّ: لا أزيل المدينة إكراماً للعشرة ". رغم كلّ الفساد والانحلال والانحطاط الّذي فتك بسدوم إلّا أنّ الرّبّ قبل بشفاعة عشرة صدّيقين وإكراماً لهم لا يزيل المدينة. فصلواتهم وتضرّعهم لله، ينقذ مدينة موبوءة بالإثم والخطيئة. وفي خروج (32،31:32)، يتوسّل موسى الله ليغفر خطيئة بني إسرائيل: " أتوسّل إليك أن تغفر خطيئتهم وإلّا فامحني من كتابك. بهذه المحبّة الملتهبة يتشفّع موسى حبيب الله، لإخوته، كي ينتصروا وكي تغفر خطيئتهم.
إيليا النّبيّ العظيم، يتشفّع في الملوك الأوّل ( 22،21:17) ليعيد ابن الأرملة إلى الحياة. يصرخ إلى الرّبّ الإله قائلاً: " أيّها الرّبّ إلهي، لتعد روح الصّبيّ إليه. فاستجاب الرّبّ الإله وعادت روح الصّبيّ إليه وعاش ". أيوب (8،7:42): " وبعد أن كلّم الرّب أيوب بهذا الكلام، التفت إلى أليفاز التّيمانيّ، وقال:
" أنا غاضب عليك وعلى صاحبيك لأنّكم ما تكلّمتم أمامي بالصّدق كعبدي أيّوب، والآن، خذوا لكم سبعة ثيران، وسبعة كباش، وعودوا إلى عبدي أيّوب وقدّموا ذبيحة تكفّر عنكم، وعبدي أيّوب يصلّي لأجلكم. وسأستجيب له، ولا أعاملكم بحماقتكم الّتي جعلتكم لا تتكلّمون بالصّدق أمامي كعبدي أيّوب." رغم خطيئة أليفاز وصاحبيه، فإنّ صلاة أيّوب كفيلة بإنقاذهم من غضب الله. إنّ الصّلاة، حوار الحبّ الملتهب مع الله من أجل الإخوة، تفيض برحمة الرّبّ اللّامتناهية.
فحيث تكثر الخطيئة تفيض النّعمة، لأنّ هناك من يصلّون بحرارة من أجل إنقاذ إخوتهم من الضّلال والألم والمرض والبؤس... يوسف البار كان شفيعاً لمصر كلّها بطاعته لله، وبحرصه على كلمته، وليس لإخوته وحسب، فأنقذ الله به مصر من الهلاك . فلنصلِّ دوماً من أجل بعضنا البعض، وعن بعضنا البعض. صلاتنا هي همزة الوصل بيننا، وهي جسر المحبّة الّذي نمدّه بين بعضنا البعض. ولنكن تلاميذ حقيقيّين لمن وحّدنا به على صليب الحبّ، وأقامنا معه.
كان وهو في قمّة الألم في بستان الزّيتون، يصلّي من أجلنا، كي تلمسنا المحبّة الإلهيّة. كذا نحن علينا أن نحمل في قلوبنا وفكرنا كلّ الإخوة. وليس إخوتنا في العقيدة وحسب، بل كلّ إنسان على وجه هذه الأرض. ولنعلن في صلاتنا ( أبانا الّذي في السّماوات)، كلّ الحبّ لبعضنا البعض وكلّ الاتّحاد الأخويّ، ولنحيَ شركةً حقيقيّة، نرسم بها جسد المسيح الإله شفيعنا وكاهننا الّذي، كما يقول المغبوط أغسطينوس، يصلّي لنا ومعنا ويستجيب لنا .
مادونا عسكر