++إيمان الصيّاد وإيمان الرسول++
“لا تخفْ فإنك من الآن تكون صيّاداً للناس”
هل الرسولية خارج العالم ومن خارجه وإلى خارجه؟ هل يشترط صيد الناس ترك صيد السمك؟
هل البشارة تقتل العمل والعملُ البشارةَ؟ كلنا نرغب أن نكون مبشرين، لكن هل هذا ممكنٌ للجميع وكيف؟
استخدم يسوع عدة مرّات مع بطرس رموزاً معينة ليخبره بما هو أعمق. هنا من دعوته الأولى،
قال له يسوع سأجعلك صيّاداً للناس، لأنّ مهنته كانت الصيد. مرّة أخرى سيقول له وهو بطرس (صخرة):
“على هذه الصخرة أبني كنيستي”…
يدعو يسوعُ الجميعَ من مهنهم، كانت ما تكون، ليصيروا رسلاً حيثما يكونون.
وعلى كلِّ إيمانٍ كإيمان بطرس سيبني كنيسته.
ظهرت في الحدث درجتان من الإيمان عند بطرس. بدايةً، يقبل بطرس كلمات يسوع كمعلّم يهوديّ
ويقتنع بها فيقدّم له سفينته ليستخدمها كمنبر للوعظ ويصغي إلى كلماته. ثمّ طلب منه يسوع أن يصطاد
في العمق بعيداً عن الشاطئ وفي النهار وليس في ساعات الليل. في حين أنّه لم يصطدْ شيئاً
لا في المكان المناسب ولا بالزمان المناسب، فكيف بنا الآن بظروف معاكسة للصيد؟ فيسوع يطلب منه
هنا أن يلقي الشباك في ظروف عكس المنطق. ولكن إيمان بطرس، بعد أن استمع لكلمات يسوع،
أوصله لقناعة أن يسوع هذا هو معلّم صالح. وعلى كلمته هذه إذاً يمكنه أن يبني رجاءً ما فيلقي الشبكة،
وكان الصيدَ الأوّل العجيب، أنّ الشبكة امتلأت حتّى تمزقت. لاحقاً، بعد هذا “الصيد العجيب”
يصير إيمان بطرس أقوى بكثير. فنراه لا يصغي ليسوع ولا يفكر به كمعلّم بل يسجد له ويناديه كـ”ربّ”.
هناك كان يسوع له معلّماً، هنا صار له ربّاً. هناك يناقشه بالمنطق، وهنا ينذهل أمامه بالشكر
ويشعر بعدم الاستحقاق صارخاً: اخرجْ عنّي يا ربّ فإني رجل خاطئ!
يَدرُج الإيمانُ الأوّل الدينَ ضمن المعطيات العقلية ويدرج المسيح من ضمن الشخصيّات التعليميّة.
أما الإيمان الثاني فهو يتجاوز العقل إلى حيز الوجود والكيان. الإيمان الثاني لا يعرف ديناً ومهنة،
و”يوماً لنا ويوماً لربّنا”، ولا ينظر للدين كعلم أو معلومة.
الإيمان هنا ليس مجرّد مجازفة على رجاء خاب أم صاب. إنّه إيمان صيّاد الناس من درجة ثانية جديدة
تقوم على معرفة يسوع فوق لغة المنطق والأديان، بل على معرفة يسوع كربّ وسيّد للحياة.
وتصير مهنة المسيحيّ واحدة وهي، كما يقول غريغوريوس النيصصي، أن يصير مسيحيّاً-مسيحاً،
أو رسولاً وسفيراً للمسيح في العالم مهما كانت مهنته.
يجعل إيمانُ “صيّاد الناس” الإنسانَ يترك كلّ شيء ويتبع يسوع، ليس لأنّ الإيمان يطلب التجرّد عن الأعمال،
حاشى، ولكن لأنَّ الإنسان يجد الدرهم الضائع والكنز المخفيّ فيبيع كلّ شيء ليشتريه.
سمع بطرس دعوة يسوع ليجعله صياداً للناس، وبقي يزاول صيد السمك كمهنة، لكن من موقعٍ جديدٍ
ومن منظورٍ جديد كسفير للمسيح. يحيا في أعماله ولكنّه يتجه إلى عمله الحقيقيّ؛ فيسوع بالنسبة
له سيدٌ لحياته وليس مجرّد مرشد أو معلّم، إنّما هو مَنْ به نحيا ونتحرك…
أي إيمان لنا نحن، الإيمان الديني العقلاني، أم الإيمان الوجودي بيسوع ربّاً وغاية وطريقاً وحياة؟
إن الدرجة الأولى جيدة عندما تكون، وهي كذلك، عتبةً للدرجة الثانية. لا ننظرنّ إلى المسيحيّة
كتعليم جديد أو قديم. بل لنشربنّ من المسيحيّة عصير الكرمة الجديد، حيث يسوع هو نور الحياة
ونحن سفراء له، نحمله لكلّ العالم تاركين كلّ شيء في وسط كلّ شيء ونتبعه.