الأساس الكتابي للحوار :
(أفسس 5: 4،3،19 / يعقوب 1: 19) "وأمَّا الزِّنا وكل نجاسة أو طمع فلا يُسمَّ بينكم كما يليق بقدِّيسين. ولا القباحة ولا كلام السَّفاهة والهزل التي لا تليق... مُكلِّمين بعضكم بعضاً بمزامير وتسابيح وأغاني روحية". يحذِّر بولس المؤمنين مِن ثُلاثيَّتَيْن مِن الشُّرور: (الزِّنا، النَّجاسة، الطَّمع) و(القَباحَة، كلام السَّفاهة، الهَزْل). الثلاثية الأولى عن خطايا فعلية، يضرّ بها الإنسان نفسه. والثلاثية الثانية خطايا كلامية يضرّ بها الإنسان نفسه وغيره أيضاً. لقد وضع بولس الخطايا الكلامية على مستوى الخطايا الفعلية الخطيرة. مُبيِّناً أنَّ الكلام في حياة المسيحي لا يتوقَّف عند حَدِّ الإقلاع عَن الثُلاثية الشِّريرة، بل يتسامى بلُغة الكلام، فيجعل منه عبادة مقدَّسة مرضية للرَّب. لذلك يذكُر ثلاثية أخرى: (مزامير، تسابيح، أغاني روحية). فلا شيء يطرد الظَّلام إلاَّ النُّور، ولا قوة تُذيب الثَّلج مثل قوة أشِعَة الشَّمس. فلنتأمَّل في الثُلاثيَّتَيْن المُتعلِّقتَيْن بالكلام:
ثلاثية الظَّلام في الكلام:
(1) القَباحَة: أي الكلام الرَّذيل والمَكْروه والدَّنيء. فكَمْ مِن كلمات قبيحة جَرَّت وراءها أفعالاً قبيحَة؟
(2) السَّفاهَة: أي الكلام عن الخطية بلسان الجُهَّال، فيتكلَّم باسْتِخْفاف عن خطاياه أو عن خطايا الآخرين.
(3) الهَزْل: أي الكلام المُضْحِك، الذي يُمكن أنْ يجرح المشاعِر ويُسبِّب العَثَرات. فهناك مَن يستمتع بإيذاء المشاعر والسخرية من الآخرين. لذلك يقول المزمور عَن الرَّجُل المُطَوَّب: "في مجلس المُستهزئين لَمْ يجلِس" (مزمور1:1).
ثلاثية النُّور في الكلام:
بَعْد أنْ حذَّر مِن الكلام السَّيء، الذي يُسيء إلى السُّمْعَة، ويُدَنِّس الدَّعوة المقدَّسة، ويؤثِّر سَلْباً على العلاقات (ع4)، حرَّضَهُم على التَّمَسُّك بالفضائل التي تجعل كلامهم مع بعضهم البعض أنْغاماً وألْحاناً عَذْبة مُقدَّسة. ليحمل كلامهم أمْجَد الكلمات، وأعْذَب الألحان، وأصْدَق التَّعبيرات، فيكون: مزامير وتسابيح وأغاني روحية.
ويقول الرسول يعقوب: "إذاً يا أخوتي، ليكُن كلّ إنسان مُسرعاً في الاستماع، مُبْطِئاً في التَّكلُّم، مُبْطِئاً في الغَضَب". إنَّنا نستطيع أن نُرشِّح أسماء كثيرة عن مُتكلِّمين أكْفاء موهوبين، ليُحاضروا لنا في مواضيع هامَّة. لكن أين السَّامعين الموهوبين؟ إنَّنا نَحِبّ بريق الشُّهْرَة، ونَتَجنَّب أنْ نكون في صفوف المُستمعين المُتعلِّمين. إنَّ الاستماع الجيد أصْعَب كثيراً مِن التحدُّث، لذلك يقول: يجب أنْ نكون مُسرعين في الاستماع مُبطئين في التَّكلُّم. إنَّ التحدِّي الكبير الذي أمامنا هو أنْ نُطَبِّق نصيحة الرسول يعقوب، وأنْ نطلب طِلبة سُليمان الحكيم: "أعْطِ عبدك قَلْباً فَهيماً، لأحكُم على شعبك وأمَيِّز بين الخَير والشَّرّ" (1ملوك 9:3). والتَّعبير (قلباً فهيماً) يعني الجَمْع بين: العَقْل الفاهِم والقَلْب المُصْغي. فليُعْطِنا الرَّب هذه الحكمة المُميِّزة، وليُعطنا في هذه الفُرصة أنْ نتعلَّم كيف نستمتع معاً بحوارات هادئة هادفة وبانية.
تعريف الحوار وأهميَّته :
(1) الحوار تبادُلٌ للآراء بين طرفَيْن أو أكثَر، يتَّفقان في بعض الأمر ويختلفان في بعضها، بهدف إيجاد إطار مَعْرِفي مُشتَرَك، بدون أنْ يستَغِلّ أحد الأطراف الطَّرف الآخَر لصالحه. هنا يجب أنْ نُفَرِّق بين الاختلاف والخِلاف. الاختلاف يأتي بَعْد النَّظَر في الأمور وبَحْثها باجتهادٍ وتحديدها. أمَّا الخِلاف فهو أمر يتعلَّق بالمزاج الخاص.
(2) الحوار وسيلة وليس غاية، ليس الهدف تغيير (الآخَر) إلى (الأنا)، ولا الوصول إلى كلمةٍ سواء بيننا في كلّ شيء. بل هو وسيلة تهدف إلى اكتشاف الآخَر، ورؤيته مِن جديد، واستكشاف أفكاره ووسائله ومَتاعبه وهواجِسه. فهو لا يهدف إلى تفوُّق أحدنا على الآخر، وإنَّما أن نتقدَّم معاً.
(3) الحوار أقْصَر الطُرُق للوصول إلى الحقيقة.
(4) الحوار ثقافَةٌ وفَنّ. ثقافةُ تنشئة وتربية ومُجتمع، وفَنٌّ له أصول وقواعد.
(5) الحوار يحتاج لإنسان صادِق مع نفسه، أمين مع غَيره، يقول ما يعني، ويعني ما يقول، ولديه القُدرة على المواجهة بشجاعة، فيعرف متى يُحوِّل الخَدّ الآخَر.
(6) الحوار يختلِف عن الجَدَل. في الحوار أخْذ وعطاء وتبادُل للأفكار، ومواجهة ومُقارنة الرأي بالرأي الآخَر، ومُراجعة النَّفْس في ضوء ذلك، وتعديل وجْهَة النَّظَر الشخصية عن الآخَر. أمَّا الجَدَل ففيه يحاول كلّ طَرَف إقناع الطَّرَف الآخَر بصحَّة رأيه. فالجَدَل صِراعٌ، يحاول فيه كلّ طَرَف أنْ يَهْزم الآخَر. ولا يمكن أنْ تفوز في جَدَلٍ قَط، سواء خَسِرْت فيه أو انْتَصَرْت. فإذا خَسِرْت فقد خَسِرْت، وإذا انْتَصَرْت، فقد خَسِرْت الطَّرَف الآخَر الذي جادَلْتَه. قد تشعُر بالرِّضا عندما تفوز في جَدَل، لكنَّك ستَشْعُر بالمرارة لأنَّ الآخَر لَن يُسَلِّم بهزيمته، لأنَّك جَرَحتَ مشاعِره وحَطَّمْت كبرياءه. فالحوار هو تبادُل المعرفة، والجَدَل تبادُل الجهل.
(7) أقوال مناسِبة:
@ عندما يغيب الحوار: يُصبح البيت قَبْراً، والجنَّة جحيماً، والحياة ساحة قتال، واللجان فُرصة للصراعات وتصفية الحسابات وتبادُل الاتهامات والانتقادات، ويتحوَّل الجسد الواحد إلى أشْلاء مُتناثرة، ويفقد الإنسان إنسانيته، ويغيب الحُبّ، وتتحطَّم العلاقات، وتُهْدَم الجسور، ويعاني الإنسان مِن الاغتراب.
@ العقول ثلاثة: عقول صغيرة تتحاور حول الأشخاص. وعقول مُتوسِّطة تتحاور حول الأحداث. وعقول كبيرة تتحاور حول الأفكار.
@ يقول أينشتين: نحن لا نحصل على السلام بالحرب، بل بالحوار.
@ قال أحدهم: ما حاوَرْتُ حكيماً إلاَّ وأقْنَعْته، وما حاوَرْتُ جاهِلاً إلاَّ وأقْنَعَني.
@ إنَّ الشخص الذي أُجْبِرَ على أنْ يعتقد بما لا يعتقد، فإنَّه لا يزال على اعتقاده الأول.
@ يقول بولس: "المُباحثات الغبية والسَّخيفة اجتنبها، عالماً أنَّها تُولِّد خصومات، وعبد الرب يجب ألاَّ يُخاصِم، بل يكون مُترفِّقاً بالجميع" (2تيموثاوس 24،23:2).
يتبع