الثالوث الأقدس في النفس البشرية
"لا تخرج من ذاتك، بل ادخل إلى أعماقك: الحقيقة توجد في الإنسان الباطني.
وإذا وجدت أن طبيعتك ليست وطيدة، تسامى على ذاتك.
ولكن اذكر أنك بتسامي ذاتك، أنت تتسامى على نفس عقلية: تُق، إذًا، إلى حيث يضيء نور العقل".
عن أي نور يتحدث القديس أغسطينوس في هذا المقطع الشهير من كتابه "الدين الحق"؟
إذا ما شرحنا هذا المقطع من فكر أغسطينوس على ضوء نصوص لاحقة، يمكننا أن نجيب بهذا الشكل: النور هو حضور الله في النفس وإشعاعه فيها.
بالنسبة لأغسطينوس، الطريق الأفضل للوصول إلى الله هو الإنسان: "اجعل من الإنسان طريقك – يقول لنا القديس الفيلسوف – فتصل إلى الله".
كل فكر أغسطينوس في هذا الموضوع ينطلق من آية سفر التكوين التي تتحدث عن الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله (راجع تك 1، 26 – 27). ويفكر أغسطينوس بهذا الشكل: إذا كان الإنسان مخلوقًا على صورة الله فمثاله، لا بد أن يكون فيه أثر، بصمة ولمسة (إذا جاز التعبير) من الثالوث الأقدس.
الذاكرة، العقل والإرادة
يتحدث أغسطينوس عن ثلاث ملكات موجودة في الإنسان وهي بحسب أسقف هيبونا تذكرنا بالثالوث الأقدس: الذاكرة، العقل والإرادة.
ويشرح أغسطينوس: كل إنسان يملك نوعًا من ذاكرة عن وجوده وحياته. لا يجب أن نعتبر الذاكرة بالمعنى العام. الذاكرة ليست حاسة نتذكر فيها الأحداث أو ننساها. بالمعنى الأغسطيني، الذاكرة هي أقرب إلى الإدراك الذاتي أو الوعي، هي حدسنا لـ ’أنا‘ نا. هذه الذاكرة هي بشكل مجازي صورة للآب. من هذا الوعي الذاتي يتولد الفكر أو العقل أو المعرفة. بهذا الشكل نرى أن العقل هو ابن الوعي الذاتي، وهو بشكل مجازي صورة للآب الذي يلد الابن (بالطبع الولادة هي تعبير مجازي، لسنا نتحدث هنا عن ولادة جسدية تتطلب ممرضات ومياه ساخنة وأوجاع مخاض!!!! اعتذر للنهفة، ولكنها تفي التفسير).
هذا وإن وعينا الذاتي وفكرنا يرتبطان أحدهما بالآخر بفعل إرادة. بكلمة أخرى نحن نحب ونريد ذاتنا (وإلا لقمنا بالانتحار) ونحب الفكر الذي يعبّر عن ذاتنا بشكل حقيقي. وكذلك بشكل مجازي، الروح القدس يولد من الآب والابن ويشكل رباط الحب بينهما.
هذا وإن هذه الحواس أو الملكات الثلاث هي متمايزة ولكنها واحدة في الإنسان الواحد، وكذلك بشكل مجازي يمكننا أن نقول أو نفهم بعض الشيء الثالوث الأقدس الإله الواحد.
ويعود أغسطينوس مرات عدة إلى موضوع صورة الله في الإنسان، لافتًا إلى أن "الروح البشري الذي يذكر نفسه، يفهم نفسه ويحب نفسه: إذا ما تمعنا في هذا الأمر، رأينا ثالوثًا، بالطبع، لسنا بعد بصدد ثالوث الله، ولكن بصدد صورة الله".
ويقول في موضع آخر: "إليكم صورة عن الثالوث الأقدس: الروح، معرفة ذاته التي هي ’ابنه‘ والكلمة المولود منه، وفي المقام الثالث المحبة".