مَن يكونُ رجلُ الكفن؟
صورة صلب
الصورة التي تظهرُ في الكفن تصوّرُ جثّة مقتولٍ. الرأس والعنق مجروحان بأدواتٍ حادّة، الركبة والأنف مجروحان نتيجة سقوطه، جُرح كبير في الصدر انفتح بعد مماته، معصمان ورجلان مثقوبون بالمسامير، وكتفان مضروبان بحديدةٍ ثقيلة.
تحدّثنا الصورةُ المطبوعة على الكفن عن جسدٍ تظهرُ عليه جميعُ أعراض "تيبّس الميّت"، أي التشنّج العضلي الذي يتبعُ الموت: فالرأس متدل على الصدر دون وجود علامات إسناد له تحت العنق، والأطراف العلوية والسفلية اتخذت أيضًا وضعًا غير اعتيادي. وتُظهرُ الثقوبُ في المعصمين والقدمين، وضعُ عضلات الصدر والفخذ، التمزقات الناتجة عن حملٍ ثقيل على الظهر، أنّ الرجلَ أُعدِم بالصلب وأنّه عُرّي قبل أن يُجلد. وحُسِب على سطح الجسم كلّه تقريبًا، ما عدا الوجه، 120 جرحًا متجاورة مع بعضها اثنين اثنين، نتيجة الضرب بأداةٍ ذات مقبضٍ مربوط بشريطين طويلين من الحبال الجلدية تحملُ قِطعًا من الرصاص. في هذه الحالة، يُعتقد أنّه ضُرِب 60 مرّة بهذه الأداة. أمّا جميعُ آثار الجروح المنظورة فيبلغ عددها 372. ويتفق أغلبية الدارسين في الاعتقاد بأنّ طوله يبلغ لمتر والثمانين سنتمترًا. تحملُ علاماتُ الشيخوخة التي تظهر على وجه إنسان الكفن إلى التأكيد بأنّه يقارب الأربعينات من العمر. هناك كسر في الأنف، والجزءُ الأيمن من الوجه متورمٌ تمامًا. وأثبت الطبيب الجرّاح بييرلويجي بايما بولوني أنّ الدم الموجود على قماش الكفن من صنف أ ب (AB) - صنفٌ نادر بين البشر، ففي أوروبا يشكّل نسبة 5% من سكانها، بينما ترتفع هذه النسبة كثيرًا لدى اليهود - ويحوي نسبة كبيرة من البيليروبين، حالة نموذجية لمَن يتعرّض لموتٍ عنيف. وفي منطقة الجمجمة تظهر آثار 13 جرحًا، ناتجة عن أدوات حادّة من نفس النوع، وذلك في الجزء العلوي من الرأس لتشكّل نوعًا من الخوذة. ويأتي نزيف الدم من جروحٍ بعضها لحقته وهو حيّ، وأخرى عندما مات. ويشير فحصُ تدفق الدم أنّ رجل الكفن كان ملفوفًا بقماش لمدّةٍ معينة، ليس أكثر من ساعتين ونصف بعد موته. وتظهرُ الجروحُ في منطقة الكتف أكثر كبرًا وتآكلاً، وكأنّه قد حمل شيئًا خشنًا وثقيلاً، وهو معطى يجعلنا نفكّر في خشبةٍ ثقيلة تزنُ أكثر من 50 كيلوغرامًا، والتي حملها من مكان الحكم بالموت وحتّى مكان تنفيذه، وهي عبارة عن الذراع الأفقي للصليب والذي يُرفع على عمودٍ يستندُ على الأرض.
هناك بعض الأمور الاستثنائية - حملُ خشبةٍ ثقيلة، استخدام المسامير في الأيدي والرجلين، تاج الشوك، عدم دفنه في مقبرة جماعية - التي تعطي لهذا الصلب خصوصية، وتجعلنا نفكّر في إعدامٍ نموذجي عنيف جدًا.
تظهرُ الجروحُ بأعدادٍ كبيرة جدًا مقارنةً بتلك المتوقعة في حكمٍ اعتيادي يليه إعدامٌ بالموت. فالجلدُ يشير إلى غضبٍ وإلى عقابٍ شديد. ويسمحُ النظامُ الروماني بعددٍ غير محدد من الجلدات ولكن يُحظر على الجلاّد قتل المحكوم عليه، بينما كان عددُ الجلدات عند اليهود محددًا بأربعين جلدة، وهو عددٌ مقدّس كما نقرأ في سفر تثنية الاشتراع 25 / 3. ولذلك عندما كانوا يستخدمون سوطًا ذات حبلين، كان اليهودُ يجلدون 13 مرّة كي لا يعرّضوا أنفسهم لخطر تجاوز هذا العدد المقدّس. وتشهدُ الصورة المطبوعة تعرّض الجسد إلى نوعين من الضرب لم يكونا مألوفين لدى الرومان: وجودُ جروح في الجمجمة والعنق، وجرح سببّته أداة رصاصية بين الضلع الخامس والسادس. أمرٌ آخر غير مألوف: مَن يتعرض للتعذيب لا تُكسر ساقيه، وهو ما كان معتادًا لدى اليهود لضرورة ليتورجية: إذ يمنع سفرُ تثنية الاشتراع تركَ الأجساد على صلبانها إلى وقت الغروب، وكانت ممارسة كسر الساقين تسرّع الموت فتسمحُ بالتالي من تنزيل المصلوبين وقت المساء. وتوجدُ آثارُ الدم الأكثر مرئية على الجانب الأيمن من الصدر وقد سبّبها جرحٌ واسع. ويبدو الدمُ مقسّمًا في جزئيه، أي الجزء المصلي والجسيمي (كريات الدم الحمر) وينتجُ هذا التقسيم بعد الموت فقط، ولذلك جاء جرحُ الصدر هذا بعد موته وقبل أن تبدأ دورة التحلل الطبيعية بعد 36-48 ساعة.
من نوع القماش وكيفية معاملة الرفات، نستطيعُ الاستنتاج أنّ رجل الكفن دُفِن دون تطهيرٍ طقسي، ذلك الذي تنصّ عليه الشريعة اليهودية، ومع ذلك كان دفنه مكرّمًا. فالأقمشة في اليهودية القديمة كانت محفوظة لاستخدامات هيكل أورشليم وللمكرّسين لله.
على عكس ما كان متوقعًا في عادات التشييع المتبعة لدى اليهود والمذكورة في التلمود، وُضِعت الجثّة المنزّلة من على الصليب على قماشٍ طويل غير مغسول. وبحسب ايمانويلا مارنيلي في كتابها "الكفن، شهادة رجاء": "هناك أربعة شرائح من الناس لا تنال التطهير الطقسي بحسب الشريعة اليهودية: ضحايا موتٍ عنيف؛ معدومون بسبب جرائم ذات طبيعة دينية؛ محظورون من قبل الجماعة اليهودية؛ مقتولون من قبل غير اليهود". ومع ذلك، دُفِن رجلُ الكفن، بالتوافق مع الحضارة اليهودية، في كتانٍ أبيض ذات نوعية راقية. أمّا الكفن فكان مخيطًا بطريقة تُسمّى "شوكة السمكة" والمستخدمة قبل العصر المسيحي ولم يبق لنا منها إلاّ نماذج قليلة، وخاصّة من الكتّان. ويمثّل الغزل تقنيّة معقدة ونادرة على شكل حرف (Z) والتي فيها توضع الألياف بالاتّجاه المعاكس لتلك التي تجفّ تلقائيًا في الشمس. أمّا الكفن فمن المؤكد أنّه صُنِع في محيطٍ يهودي، إذ لم تظهر في التحليل آثارُ أليافٍ حيوانية، وفقًا لما جاء في شريعة موسى (تثنية الاشتراع 22، 11) التي تصفُ طريقة الحفاظ على خيوط الكتان منفصلة. وإن وُجِدتْ أثارُ أليافٍ من القطن تُعرف باسم Gossypium herbaceum والمنتشرة كثيرًا في الشرق الأوسط في أيام المسيح. يتكوّن هذا النوع من القطن من نسيج ناعم جدًا وطاهر طقسيًا ويُستخدم، في العادات الطقسية اليهودية القديمة، في خياطة ستائر هيكل أورشليم ويستعمله كبيرُ الكهنة ليلتفّ به بعد الغسل الطقسي الاجباري الذي يقوم به خمس مرات في اليوم الذي يحتفل فيه بطقس يوم الكفارة، العيد الأكثر قدسية عند اليهود. ومن الغريب أن تُلّفّ جثةُ محكومٍ عليه بعقابٍ مذلّ، غاب عنه المواطنون الرومانيون ويُحفظ للخونة والفارين وغالبًا للعبيد أيضًا، في كفنٍ ثمين جدًا ليُزال عنه بعد فترةٍ قصيرة، بدلاً من رميها في مقبرةٍ جماعية أو لتصبح فريسةً للوحوش.