الجبـابــرة والــــروح
"وامتلأ الجميع من الروح القدس وطفقوا يتكلّمون... كما أعطاهم الروح أن ينطقوا"
"ورفع ملاكٌ واحدٌ قويّ حجراً كرحى عظيمة ورماه في البحر قائلاً: هكذا بدفعٍ ستُرمى بابل المدينة العظيمة ولن توجد في ما بعد" (رؤ 18، 21). هكذا هي كلمة الحقّ تنـزل كالرحى في بحر الضلال. هذا هو المشهد المهيب الذي عاينه يوحنا الحبيب في سفر الرؤيا.
وهذه العبارة تفسر لنا معنى الكلمات التي يوردها لوقا الإنجيلي عن يوم العنصرة، أن الرسل امتلأوا من الروح القدس وطفقوا يتكلّمون بلغات مختلفة كما أعطاهم الروح أن ينطقوا. عندما يحلُّ الروح القدس، أو عندما يتقّبل أحدنا الروح، روح الحقّ، تسقط حجار من برج بابل. رغم أن الوثنيّة البابلية كانت قد سقطت قبل حوالي أربعة قرون من زمن العهد الجديد، إلا أن هذه الحضارة الوثنيّة الجبارة والمتسلطة والقاهرة بصورة ملكها نبوخذنصّر استمرت في الكتاب المقدّس كتعبير عن الشرّ وتملّقه وكذبه وعنفوانه.
ولماذا لا، ما دامت هذه الروح تملأ الكون وتقود المجتمعات البشريّة على صورة الأمة البابلية حتّى يومنا هذا؟ تصوّر لنا الحضارة البابلية اعتماد الإنسان، في فهمه لذاته والآخر والكون والله، على عنفوان قوته. فالحق يخضع للقوة، وليس العكس أن تخدم القوةُ الحقيقة.
إنها لغةُ شريعة الغاب حين يحدّد سلطانُ القوةِ معانيَ الحقّ، فيحددها في حقوقه ومصالحه وإيديولوجياته، وتنعدم الحريّة إلاّ عند الأقوياء. ولطالما زيّف عنفوانُ السلطة وجهَ الحقّ المتواضع! هل يُفرض "الحق" بالقوة؟ وهل يحدّد الحقَّ الجبابرةُ – دنيوياً ومادياً؟ كلّها أسئلة أجاب عليها التاريخ البشريّ بوضوح. وكان الجواب سلبيّاً.
لقد دلّت الخبرةُ البشريّة أنّ المتسلّطين يشيّعون ويفرضون صوراً عن الحقّ مزيّفة، ويبدّلون جوهر الحقّ بخدمة مصالحهم ويطيعّون الحقّ لمآربهم. على عكس هذه الصورة، هناك في الكتاب المقدّس صورةُ أورشليم، التي تكتمل بأيقونة أورشليم السماويّة. حيث تتبنى هذه المدينةُ المقدّسة حمْلَ رسالة الحقّ. وفيها يطيع الناس الحقّ ولا يطيّعونه. ويقوم بهذه الرسالة العظيمة (إقامة الحق) الروحُ ذاته ولو على أيدينا نحن البسطاء وليس الجبابرة.
هذه صورة التلاميذ المجتمعين في علية أورشليم بروح واحدة ونفس واحدة في الصلاة، ويحل عليهم الروح القدس ويرسلهم إلى كلّ العالم مبشّرين بالحقّ، ولا يملكون سلاحاً إلا سلاح "ما يعطيهم الروح أن ينطقوا" به.
تجسّد الحضاراتُ المتعجرفةُ والأممُ المتسلطة سرَّ بابل عبر الأجيال. حيث يعادي الصلفُ والكبرياءُ البشريّ وجهَ الله. وحيث تُنصِّب هذه الأممُ قوّتَها إلهاً لها تجاه الله. وهذا هو وجه الإلحاد المعاصر. إلى هذه الأمم أرسلنا الله – نحن المبشّرين والمسيحيّين عامة- بسيف الروح عُراةً لا نملك لا سيفاً ولا زاداً! هذه خبرة الكنيسة عبر التاريخ، وهذا هو نداؤها لأبنائها، أن يخرجوا من بابل ويعودوا إلى أورشليم "اخرجوا منها يا شعبي لئلا تشتركوا في خطاياها" (رؤ 18، 4) هذه هي أسلحة البرّ: الوداعة، والمحبّة، والأناة، والتواضع، والحق،...الخ.
هذه هي قوّة الروح وأسلحتنا للبشارة. "طوبى للودعاء فإنهم يرثون الأرض". تبدو هذه التطويبة الأخيرة "بلاهةً" في نظر الجبابرةِ وسادةِ هذا العالم. لقد وجدتْ الكنيسة ذاتها، منذ فجر رسالتها، على مفترق خيار دائماً بين الوجهة إلى أورشليم والوجهة إلى بابل. ويشعر المسيحيّ، مع جملة المبادئ والمثل التي يحملها، أنّه "أسيرٌ" في بابلية هذا العالم، فتطّهره دموعُ صلاته: "على أنهار بابل هناك بكينا وتذكرناك يا أورشليم". إنّ سرّ الإثم في العالم يعمل باستمرار، وستعارض دائماً بابلُ أورشليمَ وسكانَها. "هؤلاء بالمركبات... ونحن باسم إلهنا غلبنا"، هذه هي حكمة أبناء النور. إن قوّة الكنيسة هي العنصرة، أي حضور الروح القدس.
الروح يعطي الحقّ، ويمنح التعزيةََ في العالم البابلي، ويجعل نورَ الرجاء يُشّعُ في العينين. لأنّ سفر الرؤيا سبق وأخبر أن "سقطت سقطت بابل العظيمة"، وإن الغلبة لإلهنا. إنْ كنّا نحمل أسلحةً يهزأ بها الجبابرة، مثل التواضع والحقّ والخدمة وأعمال المحبّة، فإنّ الله سيخزي بنا نحن "الضعفاء" عظماء العالم. هذا هو سلاحنا في هذا العالم إذن، أن نمتلئ من الروح القدس. هذه غاية الحياة المسيحيّة: اقتناء الروح القدس (سيرافيم ساروف).
كلّ حضور للروح هو مسبق إنباء بسقوط بابل. كلّ تقبّل للروح هو خروج من بابل إلى أورشليم. ستبقى هذه النبوءة "سقطت بابل العظيمة" تعزيةً لقلوب الساجدين والمستدعين للروح القدس. على هذا الرجاء نسكب حياتنا في السجود للروح بالحقّ، مهما تعاظمت قوى الشرّ وتعظّمتْ ادّعاءاتُ الجبابرة! قوتنا ليست في قوانا بل في نعمة الروح المعزّي. أي استسلام لمظاهر العالم الجبّارة هو خيانة لنعمة الروح. لهذا نصلي على الدوام "أيها الملك السماوي المعزّي روح الحقّ هلم واسكن فينا" وأملأ أيّها الصالح حياتنا.
فنسمع في لحظة الضيق نغمة التعزيات من كلمة الربّ: "سقطت سقطت بابل العظيمة". ونذهب من عالمنا البابليّ، ونحن أسراه، بالروح إلى ذلك الجبل العظيم العالي ونرى المدينة المقدّسة أورشليم النازلة من السماء كالعروس مزيّنة حيث مسكن الله مع البشر، حيث سيمسح اللهُ كلّ دمعة من عيوننا (رؤ 21، 1-5)، آمين.
المطران بولس يازجي