تمييز الأرواح _ الأنبا أنطونيوس الكبير
تمييز الأرواح
الأنبا أنطونيوس الكبير
لأن حضور الأرواح إن كانت صالحة أم شريرة يمكن بسهولة تمييزها، بمساعدة الله. إن رؤية الأرواح المقدسة لا تقترن بالتشويش، لأنها لا تخاصم ولا تصيح ولا يسمع أحد في الشوارع صوتها (إش 2:42، مت 19:12)، لكنها تأتي بهدوء شديد وبلطف، حتى أنه يحل مباشرة في النفس الفرح والبهجة والشجاعة. لأن الرب - الذي هو فرحنا - هو معهم، وقوة الله الآب. وتبقى أفكار النفس هادئة وغير منزعجة. وتنظر بنفسها - وهي مستنيرة كما بالأشعة - أولئك الذين يظهرون. إذ تتملكها محبة الإلهيات والأمور الآتية، بل وترغب أن تنضم إليهم كليةً، إذا كان يمكنها أن تغادر معهم.
لكن إذا كان البعض يخاف - بكوننا بشر - رؤية الأرواح الصالحة، فالذين يظهرون ينزعون الخوف منهم في الحال، كما فعل جبرائيل مع زكريا (لو 13:1)، وكما فعل الملاك الذي ظهر للمرأة (المجدلية) عند القبر المقدس (مت 5:28)، وكما فعل الملاك الذي قال للرعاة "لا تخافوا" (لو 10:2). لأن خوفهم لم ينتج عن جبن، بل من الإحساس بحضور كائنات أعلى. هذه هي إذاً طبيعة رؤية الأرواح الصالحة.
أما غارات وظهور الأرواح الشريرة فتكون مقترنة بالتشويش، بالضجيج، بالأصوات والصراخ، كمثل الشغب الحادث من الصبية الأردياء أو اللصوص. والذي من خلاله ينشأ الخوف في القلب، والإضطراب، وتشويش الفكر، والإكتئاب، وكراهية أولئك الذين يعيشون حياة التدقيق، واللامبالاة، والحزن، وتذكر الأهل، والخوف من الموت، وأخيراً الرغبة في الشرور، وعدم إحترام الفضيلة، والعادات المتقلبة.
لذلك كلما رأيتم أي منظر وخفتم، إذا أنتزع خوفكم مباشرة، وحل محله الفرح الذي لا يعبر عنه، والإبتهاج، والشجاعة، والقوة المتجددة، وهدوء الفكر - وكل ما ذكرته قبلاً - والجرأة والمحبة نحو الله، فتشجعوا وصلوا. لأن الفرح والحالة المستقرة للنفس تظهر قداسة الشخص الحاضر. هكذا تهلل إبراهيم عندما رأى الرب (يو 56:8)، وهكذا أيضاً قفز يوحنا من الفرح (إرتكض) عندما سمع صوت مريم والدة الإله (لو 41:1).
ولتكن هذه أيضاً علامة لكم، إذا ما بقيت النفس خائفة هذا معناه وجود الأعداء. لأن الشياطين لا تنزع الخوف الناتج من وجودها، كما فعل رئيس الملائكة جبرائيل مع مريم وزكريا، وكما فعل الملاك الذي ظهر للمرأة (المجدلية) عند القبر، لكنها بالأحرى كلما رأت البشر خائفين تزداد في تضليلهم حتى ما يفزع البشر بالأكثر، وفي آخر هجوم تهزأ بهم قائلة "خروا وأسجدوا". هكذا خدعوا اليونانيين، الذين أعتبروها آلهة زوراً وبهتاناً. لكن الرب لم يدعنا نُضلل بواسطة إبليس، إذ أنه أنتهره كلما صاغ ضده مثل هذه الخداعات، قائلاً: "إذهب عني يا شيطان لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد وأياه وحده تعبد" (مت 10:4). فلنحتقر إذاً المُضلل أكثر فأكثر، لأن ما قاله الرب فعله من أجلنا، حتى إذا ما سمعت الشياطين مثل هذه الكلمات منا تطرد من قبل الرب الذي انتهرها بتلك الكلمات.
ولا يليق الأفتخار بإخراج الشياطين، ولا الإنتفاخ بشفاء الأمراض، كذلك لا يليق أن يُرفَّع من شأن من يخرج الشياطين وحده، أو أن يُحقَّر من شأن من لا يخرجها. بل ليدرس الشخص تدبير حياة كل واحد وبناءً على ذلك يُقلد، يباري أو يُصحِّح. لأن عمل الآيات ليس من اختصاصنا بل هو عمل المخلص، لذا قال لتلاميذه: "لا تفرحوا بهذا أن الأرواح تخضع لكم بل افرحوا أن أسماءكم كتبت في السموات" (لو 20:10)، لأن حقيقة أن أسمائنا مكتوبة في السموات هي برهان على حياتنا الفاضلة، أما إخراج الشياطين هو هبة من المخلص الذي يمنحها. لذلك لأولئك الذين افتخروا بالآيات لا بالفضيلة وقالوا: يارب أليس باسمك أخرجنا شياطين وباسمك صنعنا قوات كثيرة، أجابهم: الحق أقول لكم أني لا أعرفكم قط (مت 7). لأن الرب لا يعرف طريق الأثمة.
لكن يجب علينا أن نصلي على الدوام - كما قلت قبلاً - لكي نحصل على موهبة تمييز الأرواح، حتى لا نصدق كل روح، كما هو مكتوب (1 يو 1:4).