في صعود السيد إلى السماء - للقديس يوحنا الذهبي الفم
الجزء الثالث
------------------------------------------------------------------------
(ألقى الذهبي الفم هذه الخطبة نهار عيد الصعود الإلهي في كنيسة مكرَّسة على اسم الشهداء وكان وُضِعَ فيها رُفاتهم المقدس. وقد خرج بشعبه من مدينة انطاكية ليحتفل بالعيد في كنيسة الشهداء إجلالاً لهم. أما سنة الإلقاء فمجهولة.)
--------------------------------------------------------------------------------...
يتابع الإنجيلي قائلاً: "وبينما هم شاخصون نحو السماء وهو منطلق إذا برجلين وقفا عندهم بلباس أبيض وقالا لهم: أيها الرجال الجليليون ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء إن يسوع الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما عاينتموه منطلقاً إلى السماء." (أعمال 1: 10 و11).
أرجو أن تعيروني هنا كل انتباهكم. لماذا قال الملاكان ذلك، أَليس للتلاميذ عيون، ألم يشهدوا الحادث، ألم يقل الإنجيلي:
"انه صعد عنهم وهم شاخصون إليه"
فلأيّ سبب حضر الملاكان يخبرانهم بأنه صعد إلى السماء؟ ذلك لسببين: الأول لأنهم كانوا متألِّمين لانفصال المسيح عنهم. إسمع ما قال لهم سابقاً:
"ليس أحد منكم يسألني إلى أين تنطلق ولكن لأني كلمتكم بهذا ملأت الكآبة قلوبكم" (يوحنا 16: 5 و6).
إن كنا لا نطيق الانفصال عن أصدقائنا وأقاربنا فكيف يتجلَّد الرسل على فراق المخلص والمعلم والكافل الودود الوديع الصالح وهم يرونه منفصلاً عنهم؟ كيف لا يتوجّعون؟ كيف لا تتفطَّر قلوبهم حزناً؟ لذلك وقف بهم الملاكان ليعزياهم عن صعوده ببشرى مجيئه الثاني:
"إن يسوع سيأتي هكذا كما عاينتموه"
فلا تجزعوا ولا تسترسلوا إلى الحزن المفرط... ذلك هو السبب الأول لحضور الملاكين. أما السبب الآخر فلا يقِلُّ عنه أهمية وهو متضمن في كلمتَيْ "إلى السماء" اللتين أُضيفتا إلى ما قبلهما:
"إن هذا الذي ارتفع عنكم".
فما السرّ في ذلك يا ترى؟ هو أنه لمَّا أخذ في ارتقائه وجهة السماء وبلغ منها شأواً بعيداً لم تعد الأبصار قادرة على رؤية جسده الصاعد دوماً نحو الأعالي. فكما أن العصفور الطائر في العلاء يختفي عن نظرنا على قدر ما يرتفع في الجوّ هكذا جسد المخلص كان يختفي بمقدار ما كان يطير في الأعالي إلى أن عجزت النواظر الضعيفة عن أن تتتبَّعه بسبب بُعْد المسافة.
+++++++++++++++++++++++++++++++++++++
لذلك حضر الملاكان وأخبرا التلاميذ بأن صعوده كان في الحقيقة "إلى السماء" لئلاَّ يظنوا أنه صعد "كأنما إلى السماء"على مثال إيليا (دون أن يبلغ إليها) ولذلك قالا:
"إن هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء"
لغاية في نفسهما وليس عَرَضاً كما رأيتم.
إن إيليا صعد كأنه إلى السماء لأنه عبد، أما يسوع فصعد إلى السماء لأنه السيّد، ذاك في مركبة نارية وهذا في سحابة. لمَّا حان أوان استدعاء العبد أُرسلت المركبة، وإذ حضر وقت استدعاء الابن أرسل العرش الملكي وليس العرش الملكي فقط بل العرش الأبوي نفسه لأن أشعيا قال عن الآب:
"هوذا الرب يجلس على سحابة خفيفة" (أشعيا 19: 1).
إذاً بما أن الآب جالس على سحابة قد أرسل السحابة إلى الابن. حين أُصعد إيليا أهبط وِشاحه على أليشاع، ولما صعد يسوع أهبط على تلاميذه مواهب قادرة أن تصنع لا نبيّاً واحداً بل ألوفاً من أمثال اليشاع وأعظم وأمجد منه.
++++++++++++++++++++++++++++++++++++