إلهي إلهي لماذا تركتَني؟
إنَّ صرخة المسيح هذه على الصَّليب، صرخة الألم، البكاء، اليأس من التَّخَلِّي، تُظْهِرُ أنَّ المسيح بناسوته، أي بطبيعته البشريَّة، عَرَفَ كلَّ مآسي البشر وأنّه لَمَس الهوّة السَّحيقَة الَّتي نَتَجَتْ عن تركِ الإنسان لله وغربته عنه. إلاّ أنّ صرخة المخلِّص لا تعني أنَّ الآب تخلّى عنه أو أنّ الألوهة فارقته، بل هو كان يمثّلنا بشخصه. لأنَّنا قبلًا كُنَّا متروكين ومُحْتَقَرِين، أمَّا الآن فجرى تعهّدنا وتمّ خلاصنا بآلامه لأنّه قدّس كلّ آلام البشر وعذاباتهم.
حقًّا إنَّ الرَّبَّ شفى آلام البشر وحوّل عذاباتهم إلى فرح بصرخة منه على الصَّليب "إلهي إلهي لماذا تركتَني؟" لأنّ هذا لا يتحقَّق إلاّ بالصَّليب وأنّه أبطل الحاجة إلى ارتكاب الخطيئة ووضع حدًّا لطغيان الشِّرِّير، وحطَّم شوكة الموت، إلاَّ إنَّه لم يُلْغِ الخطيئة أو أعمال الشَّيطان، ولا الموت الجسدي، ولا حتّى نتائج الخطيئة، لأنّه لم يشأ أن يتعدَّى على إرادة الإنسان الحُرَّة.
من هنا، كلّ الأسئلة التي تُطرَح اليوم والصَّرخات الَّتي تعلو: إلهنا إلهنا لماذا تركتَنا؟ لماذا تسمح بقتل الأبرياء وخطفهم؟ لماذا تتغاضى عن كلّ هذه الشُّرور؟ لماذا لا تنتقم للَّذين يحبُّونَك؟ لماذا لا تُجري العجائب وتخلِّص البشر من هذه المآسي؟ على هذه التَّساؤلات لا يمكننا إلاّ أن نقول: مَن يعرِفُ أحكام الله؟ كلّ شيء معروف لديه. فهو يرى كلّ شيء ولا تفوته ملاحظة شيء، ولكن ما من أحد يعرف مشيئته.
أمّا ما يمكن تأكيده فهو أن الله خلق كلّ شيء حَسَنًا وأنّ الإنسان هو الَّذي خلق مآسيه بإرادته الحُرَّة، وبالتَّالي من غير المقبول أبدًا أن نلقي اللَّوْم على الله أو أن نعتبره علّة الشَّرّ والألم. وكما يقول القدِّيس باسيليوس:
"إنَّ من الحماقة أن يؤمن الإنسان بأنّ الرَّبَّ هو سبب عذابنا:
هذه هرطقة تُقَوِّضُ صلاح الرَّبّ". وأيضًا القدِّيس غريغوريوس بالاماس يقول في هذا المضمار:
"إنَّ عدم الموت والموت وعدم الفساد والفساد يرتَكِزَان على خيار الإنسان، بما أنَّ اللهَ خلقَهُ حُرًّا، ولم يكن باستطاعته أن يمنعه من اختيار مصيره". فعمل المسيح الخلاصي ليس مفروضًا على الإنسان، بل يَتَوَجَّهُ إلى ملء إرادته.
إذًا، الحياة هي دخول في المعركة والمبارَزَة، صراع بين الخير والشَّرّ، تحدِّي قبول الصَّليب كرفيق دائم أو نكرانه.
فليُحَكِّم كلّ واحد وُجِدَ على الأرض ضميرَه الَّذي هو الـمُشَرِّع والسَّاهِر على القانون والمنفِّذ بآنٍ. لأنّه كتابٌ خطّ الله فيه كلّ التَّشريعات الَّتي فرضَها على الشُّعوب كلّها.
أمّا نحن المسيحييِّن الَّذين بُلِّغْنَا الكمال وذقنا هبات المسيح بوفرة، علينا أن نحيا إلهيًّا مُفتدين الوقت ومُحتَملين بصبرٍ كلّ أحزان هذه الحياة الوقتيَّة، متوقِّعِين التَّجارب والحروب إلى آخر نسمة من حياتنا، فنرى في هذه التَّجارب أدوية وأعشابًا علاجيَّة تشفي الأهواء المنظورة والجراحات غير المنظورة، إذ لا بدّ لشتاء الأحزان أن ينحلَّ شيئًا فشيئًا ويلوح زمن الرَّبيع.
فعلينا أن نتصبَّرَ لِنَدَّخِر لأنفسنا أجرًا وراحةً وفرحًا في الملكوت السَّماوي. فالله خلق الإنسان ليفرح، وليفرح به تحديدًا.
وأخيرًا، لنصرخُ كلّنا مع الشَّيخ يوسف الهدوئي الآثوسي: "إلهي يا إلهي! اِطَّلِعْ على عالمِك. افتَحْ سماواتِك، مرّة أخرى، وَدَعْ قطرةً من نعمتِك الإلهية تسقط عليه، أَنِرْ قلوب البشر وارحمْهم. إلهي يا إلهي! يا مَن يرى بواطن النَّفس! حَلِّ قلبَنا الَّذي مَرْمَرَهُ الشِّرِّير ونَسِيَ حُبَّك".