أين هو الله...؟ لماذا يقف صامتاً...؟
لماذا لم يتدخل ويمنع ارتكاب هذه الجريمة..؟
أليس هو أبٌ رحوم شفوقٌ حنون..؟
أين هي عنايته بأبنائه...؟
هذه الأسئلة وغيرها مما يشبهها بتنا نسمعها من حولنا في خضمّ أعمال القتل والعنف والإرهاب
المتزايدة التي تطال المسيحيين باستمرار في هذا المشرق المعذّب،
وكان آخرها الهجوم الهمجي الارهابي الذي طال الكنيسة البطرسية بالعباسية في الإسكندرية بمصر
والذي نجم عنه سقوط ضحايا وجرحى...
وكأنّ لسان حال طارح هذه الأسئلة يردّد مع صاحب المزامير قائلا:
"يا ربّ لماذا تقفُ بعيداً لماذا تختفي في أزمنة الضيق؟"
(مزمور10).
وقد يتسبّب الأمر الحاصل باضعاف ايمان البعض وزعزعة ثقتهم بالله ومحبته وعنايته!
في الوقت الذي نجّى فيه الرب الفتية الثلاثة من الموت حرقاً في أتون النار
لأجل تمسّكهم بدين آبائهم (دانيال3)،
سمح الرب أن يقضي الاخوة المكابيون السبعة مع والدتهم شُهداء لاجل أمانتهم لعبادة الاله (2مكابيين،فصل7)،
وفي الوقت الذي فيه أنقذ الرب دانيال من أنياب الأسود المفترسة،
سمح أن يستشهد القديس اغناطيوس الانطاكي بأنيابهم في روما...
وفي الوقت الذي خلّص فيه الرب شعبه من جنود فرعون وشقّ لهم البحر الأحمر
في زمن موسى وأجازهم،
سمح الرب أن يُقتل أطفال بيت لحم الأبرياء وضواحيها بيد جنود هيرودس الملك في زمن ولادة المسيح... وفي الوقت عينه الذي سمح فيه الرب أن يُقبض على الرسول يعقوب
ويُقتل بحدّ السيف ويقضي شهيداً للمسيح الاله،
فتح ملاك الرب أبواب السجن لبطرس الرسول وأطلقه ونجّاه من الموت التي ينتظره
(راجع اعمال الرسل 12).
وفي الوقت الذي فيه سمح الرب لاستفانوس رئيس الشمامسة
أن يُقتل رجماً بالحجارة بأيدي اليهود ويقضي شهيداً
(اعمال 7)،
سمح الرب لبولس الرسول أن ينجو من مكيدتهم ويهرب من سور دمشق
(اعمال9)...
السؤال.
لماذا تعامل الرب مع هؤلاء بأسلوب مغاير عن اولئك؟
لماذا سمح الله أن يُقتل هذا فينال اكليل الشهادة، وللآخر أن ينجو من الموت؟!
هل لأن هذا الرسول كان أفضل من ذاك؟ أم لأن هذا كان يستحق أن يموت والآخر أن يعيش؟!
الله ليست عنده محاباة وجوه، والميزان الإلهي يختلف كثيراً عن المنطق البشري وتحليلاته وأحكامه!
الله يعرف تماماً متى يكون الوقت الملائم لينقل اليه كل انسان، وفقاً لجهوزيته واستعداده وحالته الروحية. ويرى الله بحكمته العميقة أن دور ورسالة هذا الشخص قد تمّت واكتملت في هذا الوقت،
وأن قد حان الأوان لانتقاله من هذا العالم، أما غيره فانّ سَعيهُ ورسالته لم يكتملا بعد،
وأن ما زال أمامه الكثير لكي يُنجزه قبل أن يلتحق بمن سبقه في أوانه...
كيف..؟ لماذا..؟ متى..؟
أنا كانسانٍ ضعيف لا أعلم ولا أدرك سَبرَ أغوار حكمة الله العميقة ومقاصدة وتدابيره
التي ستؤول في النهاية الى الخير والخلاص، وهذا يؤكده لنا قول الرب:
"لأن أفكاري ليست أفكاركم، ولا طرقكم طرقي، يقول الرب،
لأنه كما عَلَت السماوات عن الأرض، هكذا علَت طُرقي عن طرقكم وأفكاري عن أفكاركم" (أشعيا8:55).
ولكنني بالايمان أوقن أن الرب
"يُدبّر كل شيئ بعمق حكمته حباً للبشر ويوزع على الجميع ما ينفعهم"،
"ونحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله"
(رومية 8: 28).
فيعطي الله لهذا نعمة نوال اكليل الشهادة في الوقت الذي يختاره وفي المكان وبالطريقة التي يرتئيها،
وقد يستبقي غيره الى وقتٍ آخر حتي يُتمّم ما أراده الله له أنّ يتمّمه لخير الكنيسة كلّها وخلاص نفسه.
وقد لا يسمح باستشهاده، بل أن يرقد بعد سنواتٍ طويلة بسبب مرضٍ
أو حادث معيّن أو لأجل الشيخوخة!
لماذا؟
الله يدرك ذلك، أما أنا الانسان الضعيف فليس لي أن أستوعب مقدار عمق حكمة الله
التي تعلو عن الادراك والفحص!
كما تعجز أصغر نملة في العالم عن فهم عقل أعظم الحكماء والفلاسفة والمفكّرين والمبدعين.
يقول القديس باييسيوس الآثوسي:
"لا يسمح اللــــه بالشرّ إن لم يَصِرْ خيرٌ من ورائه أو على الأقل إن لم يُعِقْ شراً أكبر منه".
كيف سيتمّم الله ذلك؟
المسيحي المؤمن يُصلّي.. يثق بمحبة الله الأبوية..يثق بعنايته.. يثق بحكمته وتدابيره..
يؤمن أن الله هو سيّد الكون والتاريخ، يقود كل شيئ الى الخير،
لانه اله المحبة والخير والصلاح، ولان المسيحي ابنٌ وتلميذٌ يتربّى على يدي الرب في مدرسة الايمان، ويتلقّى منه في كل يوم من أيام مسيرة حياته على الأرض
درساً في الثقة والطاعة والرجاء الذي لا يخيب بتدابيره وبمراحمه الغنية.
اعداد: الأب رومانوس حداد