جَلْد باخوس
حينئذٍ غضب أنطيوخس وأمر بأن يُخرَج سركيس إلى خارج المحكمة ويُحفظ باحتراس. أمّا باخوس فقد حُكم عليه بأن يُمدّد كمصلوب على خشبة ويُجلد باعصاب البقر. فتناوب الجلاّدون عليه حتّى تعبوا وخارت قواهم.
فعندما تمزّق جسده وسال دمه على الأرض، رفع صوته بألم وقال للحاكم:
«من كان يضربني قد تعب،
وكُفرك قد دُحِض،
وملكك الظالم قد انهزم.
وأمّا أنا فقد أعدَّ لي سيّدي الإكليل.
فبقدر ما يتشوّه هذا الجسد الخارجيّ،
كذلك يتجدّد الإنسان الداخلي في الحياة الجديدة،
التي تتجلّى للساجدين للمسيح»
استشهاد باخوس
وعندما قال هذا سُمع صوتٌ من السماء يقول:
«هلمَّ الآن إلى الملكوت المعدّ لك،
أيّها المنتصر في جهاده،
والمشتمل بالنور والمتّشح بالظفر،
مار باخوس بطل المسيح»
وفي تلك الساعة أسلم الطوباويّ نفسه في يد الملائكة القدّيسين.
دفاع سركيس وفي اليوم التالي خرج أنطيوخس من مدينة بالس وذهب إلى مدينة شورا وأخذ معه سركيس. وكان يتوسّل إليه في الطريق حتّى يسجد للآلهة ويترك المسيح.لكن سركيس لم يُذعن لكلامه بل كان يردّد هذا القول: «إني أسبّح وأسجد فقط ليسوع المسيح ملك العالمين أجمعين» ولمّا وصل أنطيوخس إلى مدينة شورا عقد مجلسًا لمحاكمة سركيس وحاول أوّلاً أن يسترضيه بلطيف الكلام ليتخلّى عن إيمانه المسيحيّ ويعبد الآلهة فقال له:«لقد رأيتَ ذلك الشقيّ باخوس،كيف تمسّك برأيه الصلب، ولم يشأ أن يُذعن ويقدّم الذبيحة لساداتنا الآلهة، بل خسر حياته من هذا العالم الجميل اللذيذ، وصار إلى موت غامض وظلام كئيب. لماذا أنتَ يا سيّدي سركيس، رضيتَ أن تتبع بدعة المسيحيّين الشريرة، وتصل إلى هذا الذلّ والعذاب، فإنّي عندما أتذكّر مجدك العظيم، وامتيازاتك الرفيعة، لدى سيّدنا الملك، أخجل عنك. فأنا أعلم أن المقام الرفيع الذي أنعمُ به، ما حصلتُ عليه إلاّ بواسطتك» فأجابه سركيس بتواضع وبشاشة وقال له: «يا أنطيوخس، هذا الججل الذي نعانيه من البشر وقتًا قليلاً، نأخذ عوضه من المسيح دالة كبيرة ومجدًا عظيمًا. هو بداته بشّرنا وقال: من يُهلك نفسه لأجلي يجدها. يا ليتك يا أنطيوخس، توافقني، وتتعرّف إلى يسوع المسيح، ملك المجد، وتكفر بالملك الأرضيّ، الذي يَسقط تاجُه ويزول حكمُه، وتُؤهّل للميراث المحفوظ للمؤمنين، وتُدعى أخًا ووريثًا في مدينة القدّيسين. وتُقبَل لدى الملك السماويّ الذي يدوم ملكه إلى الأبد، وتفوز بالحياة التي لا تنتهي»[16]. حينئذٍ أجابه أنطيوخس بغضب وقال له: «إنّ ما رددتَه أمامي ما هو إلاّ كلام سخيف وخرافات فارغة. فاترك الآن هذا الكلام الباطل، واقتنع بكلامي وقدّم الذبيحة للآلهة. وإلاّ فإنّي أعاملك بأحكام مرّة وعذابات قاسية»
فأجابه سركيس قائلاً:«اصنع ما تشاء. فأنا متّكل على يسوع المسيح سيّدي، فهو يساعدني. فقد قال لنا: لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد، ولا يستطيعون أن يقتلوا النفس. خافوا خاصّة من الذي يمكنه أن يقتل النفس والجسد، ويلقيَهما في جهنّم. أنت مسلّط على جسدي، فتعذّبه كما تشاء، ولكن اعلم يا أنطيوخس، أنك وإن قتلت جسدي، فنفسي لا يمكنك أن تقتلها، لا أنت ولا ملكك مكسيميانوس»عذاب المسامير عندئذٍ غضب أنطيوخس غضبًا شديدًا وأمر بأن يوضع في رجلَي سركيس حذاء، غُرزت في داخله مسامير من حديد طويلة وحادّة.
وأمر جنودَه، أن يسيروا به بسرعة أمام مَرْكَبته وهو منتعل هذا الحذاء. فساروا بالشهيد مسافة تسعة أميال من بلدة شورا إلى بلدة مجدل ميَّا.
أمّا سركيس فبالرغم من الدم الذي كان يسيل من رجليه كان يرتّل ويقول: «وكلتُ أمري إلى الله، فمال إليّ وسمع صلاتي. واصعدني من جبّ الضلال الفاسد، ومن قذارة عبادة الأصنام الوثنيّة. ثبَّتَ رجليّ على صخرة الإيمان، وهدى خطواتي إلى المعتقد الصحيح» وعندما دخل إلى بلدة مجدل ميّا قال له أنطيوخس: «إنّي أعجب منك يا سركيس، كيف قدرتَ أن تتحمّل هذه الآلام والتجارب الصعبة، بعد أن كنتَ تنعم بتلك العظمة والملذّات!» فأجابه سركيس بفرح: «يا صاحبي أنطيوخس، إنّ هذه الآلام والعذابات في سبيل المسيح ليست مرّة عليّ، بل إنّها أحلى وأعذب من شهد العسل» بعد ذلك طُرح سركيس في السجن. وفي السجن لم ينقطع عن الصلاة وترتيل المزامير. وعند منتصف الليل، ظهر له ملاك الربّ وشجّعه واقترب منه ولمس رجليه وشفاه من جراحاته.
وعند الصباح أمر أنطيوخس بإخراج سركيس من السجن وإحضاره إليه. فلمّا مثل أمامه تعجّب كيف أنه استطاع الوصول إليه ماشيًا على قدميه بدون وجع وقال مندهشًا: «إنّ هذا الرجل لساحر». ولمّا رآه متصلّبًا في رأيه ورافضًا عبادة الأصنام أمر أنطيوخس أن يوضع في رجلَي سركيس حذاءُ العذاب الذي انتعله من شورا إلى مجدل ميّا ويُساق بسرعة أمام مركبته من مجدل ميّا حتّى الرصالة مسافة تسعة أميال أيضًا.
وعند الوصول إلى الرصافة قال أنطيوخس لسركيس: «هل استفقت من جنونك يا شقي، وتخلّيتَ عن معتقدك الصلب؟ هل تقدّم الآن الذبيحة للآلهة؟ فأجابه سركيس: «لن أسجد للأبالسة والشياطين، ولن أقدّم الذبيحة للأصنام، بل للربّ إلهي أذبح نفسي، وإليه أتضرّع ليرتضي بي» استشهاد سركيس بحدّ السيف حينئذٍ أصدر الحكم عليه بقطع رأسه. ولمّا أخذه الجلاّدون ليقطعوا رأسه، كان جمع غفير من الرجال والنساء والفتيان يتبعون الشهيد وكانوا يتأملون في وجهه الجميل الذي كان يتلألأ بالنور كأنّه الشمس وكانوا يتحسّرون ويبكون على قتله. فسركيس كان في الثلاثين من عمره، وكان فتًى جميلاً وفارسًا جبّارًا.
وعندما وصلوا إلى المكان الذي سيُقطع فيه رأسه، طلب سركيس من السيّاف أن يسمح له بقليل من الوقت حتّى يصلّي. حينئذٍ رفع عينيه إلى السماء وبسط يديه إلى العلى ورفع صوته وقال: «يا رب. لا تحسَب على الذين يقتلونني هذه بخطيئة. بل اهدهم إلى إيمانك الحقيقيّ، وافتح بصائرهم، ليعلموا ويعرفوا أنّهم سالكون في ظلام الضلال. يا ربّ بين يديك أستودع روحي، ولأجل اسمك أُذبح قدّامك» وعندما قال هذا رسم إشارة الصليب على جبهته وصدره وجثا على الأرض وحنى عنقه قدّام السيف وقبل حكم الموت، فرحًا، حبًّا بالمسيح. وكان ذلك في السابع من تشرين الأوّل سنة 312 للمسيحجمعيّة "جنود مريم"