في عام 1809 وفي قرية صغيرة اسمها كوبفراي على بعد حوالي أربع مئة ميل من باريس ولد لويس برايل وكان طفلا ذا عينين جميلتين يحسده عليهما كل من رآه ، وكان على درجة عالية من الذكاء وعنده حب استطلاع كبير بالنسبة لسنه وكأن أحيانا يساعد والده في عمله بتصنيع سروج الخيل واللجام .
وذات مره بينما كان والده منهمكا في عمله قرر لويس أن يتعلم هو أيضا حياكة الجلود على طريقته فأخذ إبرة كبيرة ومطرقة وقطعة من الجلد ووضع قطعة الجلد على الأرض وثبت عليها الإبرة وأخذ يطرق عليها بالمطرقة محاولا إدخال الإبرة في الجلد وكان يجد مقاومة كبيرة من الجلد لدرجة أن الإبرة أفلتت من يده وللأسف جرحت عينه جرحا عميقا ووقع على الأرض يبكي ويصرخ من الألم وتسبب الجرح بسرعة في التهاب العصب البصري وفقد الإبصار بعينه اليسرى ولما بلغ سن ثلاث سنوات أصاب الإلتهاب عينه الأخرى وأصبح كفيفا تماما وسأل نفسه " لماذا يحدث كل ذلك لي أنا بالذات ؟" وشعر بالحزن والوحدة .
ومرت الأيام وأرسله والده لأخذ دروس في العزف على البيانو وأصبح مولعا بالعزف عليه وأصبح أيضا ماهرا جدا في ذلك ، ولما بلغ سن ثمانية سنوات أصبح مشهورا جدا في فرنسا ، وعندما بلغ العاشرة من عمره بدأ الدراسة في المعهد القومي للعميان في باريس وكان نابغا في الموسيقى والرياضيات والعلوم والجغرافيا ،وكانت طريقة تدريس القراءة في المعهد هي بلمس حروف كبيرة من المعدن كانت تقطع وتلصق على الورق ، وكان الأطفال يتعلمون لمس الحروف المعدنية بالأصابع ويتعرفون على أشكالها ، وفي إعتقاد لويس أن هذه الطريقة كانت غير عملية لأن طول الحروف كان يبلغ حوالي ثلاث بوصات بالإضافة إلى أنها كانت ثقيلة جدا مما دفعه إلى أن يقضي وقتا طويلا مع نفسه أنه لا بد أن تكون هناك طريقة أفضل من هذه ، وحاول أن يبدأ بعمل حروف من الجلد السميك ولكن التقدم في هذا الطريق كان بطيئا بالإضافة إلى المتاعب التي واجهته في محاولة تنفيذ ذلك .
ولما بلغ العشرين من عمره تم تعيينه مدرسا في المعهد ، وفي يوم من الأيام بينما كان جالسا في أحد المقاهي سمع شخصا يقول أن واحدا من ضباط الجيش الفرنسي اكتشف طريقة للاتصال الصامت بالجنود التابعين لوحدته وكان يستخدم جلدا مدموغا بأشكال ورموز اتفق عليها . فقفز لويس برايل من الفرحة وقال : " وجدتها .. وجدتها " .
وخلال أسبوع قام بمقابلة الضابط الفرنسي وسأله عن الطريقة التي يستعملها فشرح له الضابط أنه يمكن عمل علامات معينة باستخدام الضغط على قطعة من الورقة فمثلا نقطة واحدة معناها تقدم ونقطتين معناها تراجع وكان النظام الذي اتبعه هذا الضابط يشتمل على استخدام 12 نقطة وقام الضابط بسؤال لويس عما اذا كان يعتقد أنه بهذه الطريقة يمكنه تكوين حروف الكتابة كاملة وكان رد لويس بالإيجاب وأنه سيكون أول ضرير في العالم يشكره بعمق .
وبدأ برايل في العمل وكان مصرا على أن يصل إلى هدفه وأيضا أن يستخدم في ذلك أقل عدد ممكن من النقاط بحيث تكون هذه الوسيلة سهلة في التعليم . وفي عام 1829 نجح في تكوين حروف الكتابة باستخدام ست نقاط فقط وبدأ بتجربتها واستخدامها في المعهد ، وفي عام 1839 نشر طريقته حتى يطلع العالم على اكتشافه ، وواجه مقاومة كبيرة من الجميع بما فيهم المعهد نفسه ، وألف أول كتاب له يحتوي على ترجمة قصائد للشاعر الإنجليزي الأعمى جون مليتون ، وحتى يمكنه الكتابة استعمل إبرة كبيرة مشابهة لتلك التي تسببت في إصابته بالعمى في البداية . ورغم أن هذا الإختراع لم يكن مقبولا ولا معترفا به في البداية ، ولكنه لم يستسلم وظل مداوما على تعليم طريقته لتلاميذه وحاول مرات عديدة أن يقدم مشروعه للأكاديمية الفرنسية ولكن مشروعه كان يقابل دائما بالرفض .
وفي أحد الأيام
كانت إحدى تلميذاته تقوم بالعزف على البيانو في أحد أكبر مسارح باريس
ولما انتهت من العزف صفق لها الحاضرون بإعجاب شديد
ونهض الجميع وقوفا معبرين عن تقديريهم لأداء هذه التلميذة
فاقتربت من الجمهور وقالت :
" لست أنا التي أستحق كل هذا التقدير ولكن الذي يستحقه هو الرجل الذي علمني عن طريق اكتشافه الخارق وهو الآن يرقد في فراش المرض وحيدا منزويا بعيدا عن الجميع ".
فبدأت الجرائد والمجلات حملة قوية تساند لويس برايل وتؤيد وتدعم طريقته وكان من نتيجة هذه الدعاية المكثفة أن اعترفت الحكومة الفرنسية باكتشافه وجرى أصدقاؤه يبلغونه بالأخبار الجميلة وقال لهم برايل والدموع تملأ عينيه :
" لقد بكيت ثلاث مرات في حياتي أولها عندما فقدت بصري والثانية عندما اكتشفت طريقة حروف الكتابة وهذه هي المرة الثالثة وهذا يعني أن حياتي لم تذهب هباء ".
وفي عام 1852 توفي برايل بمرض السرطان ولم يتعدى عمره 43 عام .
وفي 1929 أي بعد مائة عام من توصل برايل لحروف الكتابة في مرحلتها المتقدمة
احتفلت فرنسا بذكراه فأقاموا له تمثالا في قريته الأصلية
وعندما أزيح الستار عن التمثال
رفع المئات من المكفوفين أيديهم
حتى يتمكنوا من لمس وجه الرجل الذي أنار لهم الطريق .
واليوم يوجد أكثر من عشرين مليون ضرير حول العالم
يدينون بالشكر لهذا الرجل الذي ساعدهم على القراءة والكتابة
والوصول لأعلى درجة ممكنه لهم
وكل هذا الإنجاز بدأ برجل واحد
كرس حياته لمساعدة نفسه ومساعدة الآخرين
وفهم تماما قوة الصبر.