القديس العظيم البابا شنوده الثالث ++++++++++++++++++++ العطاء، وتطويب العطاء
من العبارات الجميلة التي وردت في هذا الموضوع، قول بولس الرسول لرعاة كنيسة أفسس: متذكرين كلمات الرب يسوع أنه قال: مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ (أع 20: 35).
فلماذا طوب الرب العطاء؟ لاشك لأسباب كثيرة:
# تطويب العطاء:
في العطاء تشرك الغير في الذي لك، بل بالحري تشرك الله نفسه في أموالك. ليس فقط حينما تعطى للكنيسة، إنما حينما تعطى للمحتاجين أيضًا. ألم يقل الرب".. لأني جعت فأطعمتموني، عطشت فسقيتموني. كنت غريبًا فآويتموني، عريانًا فكسوتموني، مريضًا فزرتموني".. وشرح ذلك في قوله عن كل هؤلاء المحتاجين: "بما أنكم فعلتموه بأحد أخوتي هؤلاء الأصاغر، فبي قد فعلتم" (مت 25: 35-40).
إذن ما تعطيه لأحد من المحتاجين، إنما تعطيه للرب نفسه. سواء كان طعامًا لجوعان، أو كساء لعريان.. أو مجرد زيارة تزورها لمريض أو لسجين.. هذه الزيارة هي أيضًا لون من العطاء، تعطى فيه حبًا ومشاركة وجدانية، عطاء للنفس وليس للجسد..
العطاء إذن هو خروج من الذات للشركة مع الآخرين.
الإنسان المنطوي على ذاته، يبعد عن الغير، لا يأخذ ولا يعطى. والإنسان الأناني يحب دائمًا أن يأخذ لا أن يعطي. والإنسان الاجتماعي يأخذ من الناس ويعطى. أما الإنسان المحب الباذل، فهو الذي دائمًا يعطى. هو الذي يفضل غيره على نفسه
يأخذ دائمًا من نفسه، لكي يعطى لغيره.
ومن هنا كانت فضيلة العطاء تمتزج على الدوام بإنكار الذات. فيها تكون الذات في المتكأ الأخير، بينما الأولوية للغير. لا يفكر الإنسان في احتياجاته الشخصية ولوازمه، إنما يفضل غيره على نفسه. وهكذا فعلت أرملة صرفة صيدا في أيام المجاعة، حينما قدمت لإيليا النبي حفنة الدقيق التي عندها، والقليل مما في كوز الزيت، لهذا بارك الله بيتها بركة عظيمة (1مل 7: 11-19).
وبالمثل فعلت الأرملة التي دفعت فلسين في الصندوق، فطوبها الرب أكثر من كل الذين أعطوا. لماذا؟ "لأنها من أعوازها أعطت" (لو 21: 4).
وليس فقط أعطت من أعوازها، بل أنها أيضًا "أعطت كل معيشتها"، كل الذي لها. وهنا نرى نفس القاعدة التي ذكرناها وهى تفضيل الذات.. يعيش غيري، ولو أموت أنا. يستوفى هو حاجته، أو أساهم في سد احتياجاته، مهما كنت أنا محتاجًا. وفي تطويب الرب لهذه الأرملة، ونلمح قاعدة هامة هي: إن الله ينظر عمق العطاء لا إلى مقداره.
ومن مظاهر هذا العمق، ارتباط العطاء بالحب. فتحب أن تعطى، وتحب الذي تعطيه. ولذلك فالعطاء الذي يفيدك روحيًا، هو الذي تعطيه، لا عن ضجر ولا تذمر ولا اضطرار، بل بكل مشاعر الرضا والفرح. وكما قال الكتاب: "المعطى المسرور يحبه الله" (2كو9: 7).
فأنت تحب الإنسان المحتاج. وبدافع المحبة تعطيه. وتظهر محبتك في طريقة تعاملك وأنت تعطى. ويحس المحتاج بمحبتك فيفرح بها أكثر من فرحه بما يأخذه. إنه يأخذ منك مشاعر قبل أن يأخذ ماديات. ويحس أن عطاءك ليس لونًا من المظاهر أو الرسميات، بل هو عاطفة ومشاركة، أنت أيضًا لا تكون أقل فرحًا منه وأنت تعطيه. كالأم التي تفرح وهى تعطى لابنها، فرحًا سابقًا للعطاء، ومصاحبًا له، وفرحًا بفرح ابنها وهو يأخذ.
ولنا مثال كتابي، بفرح الشعب حينما كان يعطى لبناء الهيكل أيام داود النبي.
وفى ذلك يقول الكتاب " وفرح الشعب بانتدابهم، لأنهم بقلب كامل انتدبوا للرب (دفعوا بإرادتهم)
وداود الملك فرح فرحًا عظيمًا. وبارك الرب أمام كل الجماعة وقال "وَلكِنْ مَنْ أَنَا، وَمَنْ هُوَ شَعْبِي حَتَّى نَسْتَطِيعَ أَنْ نَنْتَدِبَ هكَذَا؟ لأَنَّ مِنْكَ الْجَمِيعَ وَمِنْ يَدِكَ أَعْطَيْنَاكَ.. أَيُّهَا الرَّبُّ إِلهُنَا، كُلُّ هذِهِ الثَّرْوَةِ الَّتِي هَيَّأْنَاهَا لِنَبْنِيَ لَكَ بَيْتًا لاسْمِ قُدْسِكَ، إِنَّمَا هِيَ مِنْ يَدِكَ، وَلَكَ الْكُلُّ" (سفر أخبار الأيام الأول 29: 14، 16).
جميلة هذه العبارة "من يدك أعطيناك".
نحن لا نملك شيئًا. كل منا يقول ما قاله أيوب الصديق "عريانًا خرجت من بطن أمي" (أى 1: 21). وكل ما نملكه حاليًا، نقول فيه أيضًا مع أيوب "الرب أعطى". نقول للرب مع داود "هو من يدك، ولك الكل". لذلك حسنًا أننا في كل عطاء نقدمه للرب، نقول له فيه "من يدك أعطيناك".
حقًا، إنه تواضع من الله الغنى، أن يأخذ منا".
إنه يعطينا فرصة نعبر فيها عن مشاعرنا. تمامًا مثل الأب الذي يقبل هدية من أبنه، يعبر بها الابن عن محبته لأبيه، بينما ثمن هذه الهدية هو أيضًا من مال أبيه، وكأنه يقول له كذلك " من يدك أعطيناك".. الله الغنى، مصدر كل غنى، الذي له الأرض وما عليها" (مز 24: 1) الله الذي يشبع كل حي من رضاه، من محبته يحب أن يشركنا معه في العناية ببيته وبأولاده، ويكافئنا على ذلك..
يعطينا ما نعطيه، يكافئنا حينما نعطى.. وفي كل ذلك يدربنا على العطاء.
يعطينا الحياة والوجود. ثم يقول لنا: في كل أسبوع حياة أعطية لكم، أعطوني منه يومًا يسمى "يوم الرب".. وأعطيكم مالًا. وفي كل ما أعطيه لكم من مال، أعطوني العشر.. وفى كل ذلك نقول له: يا رب من يدك أعطيناك.. أنت هو المعطى لنا، ولمن نعطيهم. وأنت أيضًا الذي تعطينا محبة العطاء أعطني صحة وقوة، وأنا أخدمك بها.
وكلما أتعب في خدمتك، وكلما أبذل في خدمتك، لا أحسب نفسي مطلقًا أنني قد أعطيتك شيئًا.. فالصحة من عندك، والقوة من عندك، ومحبة الخدمة هو أيضًا من عندك.
بل أنا نفسي من عندك. كان ممكنًا أنى لا أولد ولا أوجد. وأنت أعطيتني هذا الوجود الذي أخدمك به، وأعطيتني الكلمة التي أقولها.. وفي كل خدمتي لك وتعبي من أجلك، أقول "من يدك أعطيناك".
|