الإفخارستيا ، المأكل الحق والمشرب الحق
على ماذا يدل هذا الجدل الساذج حول الإفخارستيا ؟ هل نتناول الناسوت ، أم اللاهوت ، أم الناسوت مع اللاهوت ؟ إن دل ذلك على شيء فهو يدل على جهل عميق بثلاثة عناصر أساسية حاكمة في موضوع الإفخارستيا :
1- رمزية أركان وجودنا الحيواني العتيق في هذا العالم لاشك أن الطعام والغذاء هو أحد أهم أركان وجودنا البيولوجي .
والمعنى البسيط هو أن الأكل يعني الحياة البيولوجية الحيوانية . ولكن الطبيعة الإنسانية قد كشفت بعدا آخرآ لحدث الأكل ، فقد أصبح للأخير بعدا إحتفاليا ؛ فتكاد تتم أغلب المناسبات الإنسانية الإحتفالية على خلفية الولائم وشركة الأكل بين جميع المحتفلين . إذن ، هناك معنيان أساسيان وراء الأكل والطعام : معنى الحياة والوجود ، ومعنى الشركة مع الآخر .
ولكن حقيقة الصورة المعزولة للطعام ولحدث الأكل تفشل في تحقيق هذين المعنيين ، واقعيا ؛ فيظل الإنسان يأكل ولكنه في النهاية يموت ، ويظل الإنسان يشارك الآخرين طقس الطعام ولكنه في النهاية يبقى معزولا عن الآخر فلاتضمه به شركة كيانية حقيقية . ولكن في الإفخارستيا يتحول المعنى إلى رمز يمتلئ في المسيح
فيتكشف معنى الحياة والوجود كرمز للحياة الأبدية التي يتم نوالها في المسيح . ويتكشف معنى الشركة كرمز للشركة في حياة الكلمة المتجسد والشركة مع جميع أفراد الكنيسة القديسين الآخرين ، في الجسد الواحد الذي للمسيح . الإفخارستيا هي شركة الحياة الأبدية في كيان المسيح المستوعب للكل .
وفيما فشل الطعام المادي أن يحقق المعنى الذي يشير إليه - من وجود أبدي ومن شركة مع الآخر - فقد نجحت العضوية في المسيح ( بالإفخارستيا ) في تحقيقه ، لذلك فهي الطعام الباقي ، وهي الخبز الحي النازل من السماء ، هي المأكل الحق والمشرب الحق .
2- طبيعة وجودنا الروحاني ، الجديد ، في المسيح
الإنسان الجديد ، آدم الأخير ، الذي من السماء القائم من الموت
والمنتصر على الفساد الطبيعي بفضل الكلمة الحال فيه هو بحسب تعبير الرسول بولس في ( 1كو 15 ) جسم روحاني ، عوضا عن الجسم الحيواني ، الترابي ، الذي من آدم الأول . ولم يكن ذاك مجرد جسما روحانيا حيا بل صار " روحا محييا " ، صار رأسا للوجود الروحاني الجديد عديم الفساد للإنسان . وفي الإفخارستيا تتدفق الحياة الروحية الأبدية من رأس هي الرب يسوع ، الابن البكر ، إلى جميع أعضاء الجسد . وبامتلاء وتكميل الحدث الإفخارستي يكتمل بنيان الكنيسة يكتمل بنيان جسد المسيح . الأكل الإفخارستي ليس أكلا بالمفهوم البيولوجي
بل هو ولوج إلى الوجود الروحاني الجديد في المسيح ، هو دخول إلى الطبيعة الجديدة عديمة الفساد القائمة من الموت . وفي الأكل الإفخارستي نحن نتجاوز ونتخطى ظاهر صورة الأكل البيولوجي الطبيعي إلى جوهر الحدث المحمول بقوة الرمز ، في الروح القدس ، إلى شركة الحياة الأبدية ، في المسيح . في الإفخارستيا نحن نرتحل من صورة وجودنا العتيق إلى المسيح . نحن نتحول إلى المسيح وليس هو الذي يتحول إلينا . نحن لانبتلعه لنسكنه في بطوننا ،
بل هو الذي يختطفنا لنسكن ونستوطن في جسده كأعضاء . نحن لانجعله عتيقا مرة أخرى ، بتعاطينا البيولوجي معه ، بل هو يجعلنا جددا بتعاطيه الروحاني معنا . نحن نتناوله ، أي نحن نصير إياه ، نصير مسيحا . هذا هو المأكل الحق والمشرب الحق .
3- طبيعة شخص المسيح
لم تذكر الأناجيل التي رصدت مشهد التأسيس الإفخارستي
أن الرب يسوع قد أكل مع تلاميذه من الخبز أوشرب من الخمر اللذين قسمهما عليهم بعد تناولهم الفصح ، بل أنه بعد أخذ الخبز وكسره وقسمه عليهم قال لهم : " خذوا ( اقبلوا ) كلوا . هذا هو جسدي " ( مت26: 26 ) ، " هذا هو جسدي الذي يبذل عنكم . اصنعوا ( أثمروا ) هذا لذكري " ( لو22 : 19 ) .
وأيضا أخذ الكأس قائلا : " اشربوا منها كلكم ، لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا "( مت26 : 27 ) . وكأن لسان حال السيد :
" كما أخذت ( قبلت ) أنا في جسدي الخاص ، خذوا ( اقبلوا ) أنتم أيضا . فإن صنعتم هذا صرتم أعضائي وأنا صرت رأسكم ، فهذا الذي تثمرونه هو جسدي الذي يستوعبكم جميعا "
وبالفعل قد كان جسد الرب يسوع التاريخي هو أول كيان بشري يعمل فيه الحدث الإفخارستي ؛ فبتجسد الكلمة صار لجسده الخاص ، يسوع ، الحياة وعدم الموت بالقيامة من الأموات بفضل الكلمة الحال فيه ، فأكلت فيه الطبيعة البشرية وشبعت وامتلأت .
ولكن هذا لم يكن نهاية الأمر فقد صار جسد الكلمة الخاص نبعا للحدث الإفخارستي الفائض على الجميع لكي مايصير لهم ملء ، فيه " فقد رأينا مجده ،... مملوءا نعمة وحقا ... ومن ملئه نحن جميعا أخذنا ، ... " ( يو1 : 14-16 ).
ولذلك فمن العبث الحديث عن تناول الناسوت . أي ناسوت ؟ إن ناسوت يسوع ، ذاته ، قد أكل وشبع وصار مصدرا لشبع الجميع . وفقا للدقة اللاهوتية المطلقة لكلمات الإنجيل ، نحن نقول بأننا نأكل جسد المسيح . ونقول بأن الكنيسة هي جسد المسيح ، ولانقول بأننا نأكل جسد يسوع أو أن الكنيسة هي جسد يسوع . والفرق دقيق جدا وهام جدا ؛ فمعنى أننا نأكل جسد المسيح هو أننا نصير جميعا مشتركين في المسيح ، ذلك الكيان الكاثوليكي الذي يستوعب الجميع والذي رأسه هو الرب يسوع التاريخي . فيسوع هو خمير الإفخارستيا الذي بواسطته يختمر كل عجينها صائرا كنيسة ، صائرا مسيحا مستوعبا للجميع .
نحن نقبل من الرب يسوع كل مايملأنا ، وحينئذ نستطيع أن نملؤه ،
كشخص المسيح المستوعب للكنيسة . نحن لانأكل ناسوت الرب يسوع التاريخي ، بل نأكل ونمتلئ حينما نتقبل الفيض الإفخارستي النابع منه والممتد فينا محققا انتماءنا إليه كأعضاء ، ومحققا في ذات الحدث انتماءه إلينا كرأس . لقب الرب يسوع التاريخي بلقب " المسيح " .
وشخص المسيح هو الشخص الإفخارستي ، هو الشخص الآتي الآن في البشر ، في الكنيسة . وإن كان الكلمة بتجسده قد أشبع جسده الخاص ، فمتى امتد هذا الشبع ، إفخارستيا ، إلى كل أعضاء الكنيسة - وامتلأ شخص المسيح بلملمة أعضاءه المشتتين في الزمان والمكان - استعلن شبع الجميع فيه . هذا هو المأكل الحق والمشرب الحق .
التنوير الاورثوذكسي
|