اتفق اثنا عشرمن القديسين الحكماء، واجتمعوا على رأيٍ واحدٍ، ورغب بعضُهم إلى بعضٍ في أن يَذكُرَ لهم طريقةَ نسكِهِ، لينتفعوا:
فقال الأول:« أنا منذ بدأتُ بالانفرادِ، صلبتُ ذاتي عما هو خارج عني، وجعلتُ فيما بين نفسي وبين الأشياءِ الجسمانيةِ سوراً، وصرتُ في بيتي، كمن هو داخل السورِ، فلا ينظر إلى ما هو خارج عنه، فكنتُ أتأمل ذاتي فقط، منتظراً الرجاءَ كلَّ وقتٍ من اللهِ، وصوَّرتُ الأفكارَ الخبيثةَ بصورةِ العقاربِ والحيات، فمتى أحسستُ بها متحركةً فيَّ، طردتُها وأبعدتُها بالغيظِ والتهويل، وما كففتُ في وقتٍ من الأوقاتِ من الغضبِ على نفسي وجسمي، لكي لا يعملا عملاً شريراً».
وقال الثاني: «أنا منذ زهدتُ في العالمِ، قلتُ في نفسي، اليومَ وُلدتَ، فاترك ما مضى وابتدئ بالعبادةِ لله. وأنزلتُ نفسي منزلةَ الغريبِ في المكانِ الذي من شأنهِ أن ينصرفَ غداً».
وقال الثالث: «أنا من باكرِ النهارِ أطرحُ ذاتي على وجهي أمامَ ربي، وأقرُّ بجرائمي، ثم أتضرعُ للملائكةِ أن يسألوا الله العفوَ عني، وعن الناسِ جميعاً، ثم أطوفُ أماكنَ العذابِ بعقلي، وأبكي وأنوح إذ أرى أعضائي مع الذين يُعاقبون ويبكون».
وقال الرابعُ: «أنا أتصور نفسي جالساً في جبلِ الزيتون مع ربنا وملائكتهِ، وأقولُ لنفسي، منذ الآن لا تعرف أحداً بالجسدِ، بل كن مع هؤلاءِ دائماً، بمنزلةِ مريم الجالسةِ عند قدمي السيدِ، لتسمعَ أقواله سماعاً مطيعاً، كقولِ ربنا: كونوا أطهاراً لأني طاهرٌ، كونوا كاملين مثل أبيكم الذي في السماءِ، فإنه كاملٌ، تعلَّموا مني فإني وديعٌ ومتواضعٌ بقلبي».
وقال الخامس: «وأنا أتصورُ الملائكةَ صاعدين ونازلين، في استدعاءِ النفوسِ، وأتوقعُ وفاتي كلَّ يومٍ، وأقول: مستعدٌ قلبي يا إلهي».
وقال السادس: «أنا أستشعرُ كلَّ يومٍ أنني أسمعُ من ربنا هذه الأقوال: اتعبوا من أجلي فأُنيّحَكم، إن كنتم أولادي فاستحوا مني كأبٍ محبٍ، وإن كنتم إخوتي فوقروني، إن كنتم أحبائي فاحفظوا وصاياي، إن كنتم رعيتي فاتبعوني».
وقال السابع: «أنا أذكِّرُ نفسي بهذه: وهي الإيمان والرجاء والمحبة، حتى أنجح بالإيمانِ، وأفرح بالرجاء، وأكمل المحبة لله والعبادة».
وقال الثامن: «أنا أرى المُحال طائراً طالباً واحداً يبتلعه، وأرفعُ نظري العقلي إلى إلهي واستنجدُ به عليه في أن لا يدعه يتقوى على أحدٍ، وخاصةً على الخائفين منهم».
وقال التاسع: «إني أرى كلَّ يومٍ كنيسةَ القواتِ المعقولةِ، وأعاينُ ربَّ المجدِ، في وسطِها، لامعاً جداً، وأسمعُ نغماتهم في تسابيحهم التي يرفعونها إلى الله، بمنزلةِ من قد فَهِمَ ما هو مكتوبٌ: إن السماواتِ تخبر بمجدِ الله، فأحسبُ كلَّ ما على الأرضِ رماداً وكُناسةً، ويزولُ عني الضجرُ والتعبُ والغم».
وقال العاشرُ: «أنا أرى الملاكَ الذي معي قريباً مني، وصاعداً بأعمالي وأقوالي، فأحفظُ ذاتي، وأتذكرُ قولَ النبي: سبقتُ فرأيتُ الربَّ أمامي في كلِّ حينٍ، لأنه عن يميني لكي لا أتزعزع».
وقال الحادي عشر: «أنا أضعُ وجهي على ضبطِ الهوى، والعفةِ، وطولِ الروحِ، والمحبةِ، وأقولُ لنفسي: لا ننم».
وقال الثاني عشر: «أما أنتم فلكم أجنحةٌ من السماءِ، طالبين ما في العُلا، فقد انتقلتم بالنيةِ من الأرضِ، وتعريتم من هذا العالمِ، فأنتم أناسٌ سمائيون أو ملائكةٌ أرضيون. وأما أنا، فإذا قايستُ نفسي بكم، أكونُ غيرَ مستحقٍ الحياةَ، لأني أُعاينُ خطاياي أمامي في كلِّ حينٍ، وأينما توجهتُ تتقدمني، وقد حكمتُ على ذاتي أني في جملةِ الذين تحت الأرضِ قائلاً: سأكون معهم، إذا كنتُ مستوجباً أن أكونَ قريبهم، وأُبصرُ هناك الدودَ والحسراتِ والعبراتِ المتصلةَ المُرةَ، أقواماً تُقعقع أسنانُهم، ويقفزون بجملةِ جسمِهم مرتعشين، من رؤوسهم إلى أرجلهم، وأطرحُ ذاتي على الأرضِ، وأنثرُ الرمادَ عليَّ، متضرعاً إلى اللهِ، في أن لا أباشرَ تلك العقوباتِ، وأنظر أيضاً بحرَ نارٍ يغلي، ويعجّ، يتوهم من يُبصرُه، أن أمواجَه تبلغُ إلى السماءِ، وملائكةٌ متنمرين يطرحون أناساً لا يُحصَون في ذلك البحرِ المريع، وكلهم يعجُّون بولولةٍ عظيمةٍ، ويحترقون كالقشةِ، وقد ارتدَّتْ عنهم رأفاتُ اللهِ، لأجلِ آثامهم، وأنتحبُ على جنسِ البشرِ، وأتعجب كيف يجسُرُ أحدٌ أن يتكلمَ كلمةً أو ينظرَ نظرةً بمخالفةٍ، وقد أُعدتْ هذه العقوبات، لكلِّ من لا يؤمن بالإلهِ ويطيع وصاياه، وبهذا أضبطُ النوحَ في نفسي، والدموعَ في عيني، وأحكمُ على ذاتي بأني لستُ أهلاً للسماءِ، ولا للأرضِ، متشبهاً بالنبي القائل: صارت دموعي لي خبزاً نهاراً وليلاً».
فهذه أقوالُ وسيرة الآباءِ المغبوطين، فطوبى لمن اهتدى بأقوالهِم، واقتدى بأفعالهِم، ومِن ربنا نسألُ العفوَ والعونَ، وله نقدمُ التسبيحَ والشكرَ، ولأبيه الصالح، وروحِ قدسِه، الآن ودائماً، آمين.