بساطة وإيمان
قصّ علينا كاهن رعيّتنا قائلاً: "اعتاد شابّ تقيّ، في منتصف الستينات، أن يواظب على الاجتماعات الروحيّة، وفي كثير من الأحيان كانت تحضر والدته المسنّة معه. كانت سيّدة متقدّمة في أيّامها، بسيطة ومؤمنة، وكم كنّا نسعد بدعواتها الطيّبة لنا. أحبّت هذه السيّدة القدّاس الإلهيّ بشكل كبير، وعندما سألتها ذات يوم: "ماذا يعجبك في القدّاس الإلهيّ؟"،
فأجابتني بابتسامة مشرقة: "كلّ كلمة. ما أحلاها من كلمات تتردّد على مسامعنا!! اسمع مثلاً كلمة "يا محبّ البشر"، أو "يا قدّوس القدّيسين، فإنّ مجرّد سماعها يجعلك تنسحق وتتخشّع". وأمّا أنا فقد بكّت نفسي لدى سماعي أقوالها، وقلت حقًّا إنّ البسطاء سيسبقون الكثيرين إلى الملكوت ممّن يدّعون العلم أو الحكمة أو المعرفة.
اشترى ابن هذه السيّدة آلة تسجيل صغيرة، وذهب بها إلى البيت مع شريط للقدّاس الإلهيّ، وراح يزاول بعض الأعمال البسيطة وهو يستمع إلى هذا الشريط. ثمّ ما لبث أن حانت منه التفاتة إلى الوراء، وإذا بوالدته التقيّة واقفة بكلّ تقوى وكأنّها في الكنيسة في حالة الصلاة، فابتسم الأخ وقال لأمّه:
- يا أمّي، إنّه مجرّد تسجيل وليس خدمة حقيقيّة.
- فقاطعته قائلة: اسكت، يا ابني، واحترم جوّ الصلاة.
- نعم، يا أمّي، ولكنّنا لسنا في الكنيسة، ولا يوجد كاهن ولا ذبيحة.
\
- لقد طلبت منك أن تصمت، أليس ما نسمع صلاة؟ أوَ ليس يجب أن نقف أثناء الصلاة باحترام أينما كنّا، أم نحن نسمع أغاني عالميّة؟
وهكذا رفضت سماع أقواله، وأصرّت على الوقوف وهي غارقة في صلاة حقيقيّة. ولقد أكّد هذا الأخ أنّه في كلّ مرّة كانت أمّه تسمع شريط القدّاس الإلهيّ كانت ترفض الجلوس وتقف بكلّ خشوع حتّى انتهاء الخدمة.
ورغم أنّه مرّ زمن طويل على هذا الكلام، إلاّ أنّني أتذكّره كلّما رأيت الكثيرين يديرون آلات التسجيل ليسمعوا الصلوات سواء في البيوت أو السيّارات أو ربّما في الأماكن العامّة، وأندهش لقلّة الإهتمام، أو عدم الانتباه. كثيرًا ما تجدهم منهمكين في ما يفعلونه، وقد اعتادوا على سماعها، ففقدت معناها وتأثيرها، لا بل أصبحت بالنسبة لهم كالموسيقى التي تصدر من الأماكن العامّة، ولا ينصت إليها أحد لكنّها مجرّد موسيقى تخفّف زحام الناس وكثرة الأصوات.
بيد أنّي لا أنكر أنّ البعض لا يزال يتعزّى بسماع الصلوات، ويجني منها فائدة كبيرة، فالأمر يتوقّف على استعداد الإنسان وحرصه.
اعداد راهبات دير القديس يعقوب الفارسي المقطع