نلاحظ أنّ حياة الإنسان تمرّ وفي داخله عبء يتحوّل إلى هاجس ويحوّل حياة الكثيرين إلى جحيم.
هذا العبء هو المحافظة على الظّاهر والمظاهر الخارجيّة، كي يبقى الإنسان مقبولاً من الآخر،
وكي يتجاوب مع المقاييس البشريّة.
وغالباً ما نحكم على ظاهر الأشخاص وفق المقاييس الّتي وضعها المجتمع للجمال،
أو للبشاعة، أو لطريقة اللّبس، إلخ.
وبالتّالي هذه المقاييس تنعكس ألماً على كثيرين، وتشكّل لهم ثقلاً في حياتهم،
وقليلون هم من يعيشون بسلام بمعزل عن هذه المشكلة.
تبدأ هذه الإشكاليّة في العائلة الصّغيرة، حيث نرى بشكل واقعيّ أنّ الأهل بشكل نسبيّ
يعيرون الاهتمام إلى الطّفل الّذي يتمتّع بميزات جماليّة أكثر من الّذي لا يتمتّع بهذه الميزات،
وإن كان لا بدّ من عاطفة غير مجزّأة في العائلة.
حتّى إنّ هذا الفرق يطول الأطفال في المدارس، فالمعلّمون والأساتذة،
يبالون أكثر للتّلميذ الّذي ينعم بهذه الميزات.
كما أنّ هذا التّمييز يطول الإنسان لاحقاً، بعد أن ينهي التّحصيل الجامعي،
عندما يبدأ بالبحث عن عمل، فيواجه مقاييسَ معيّنة للظّاهر يستند إليها المجتمع.
تقوم هذه المقاييس على ما يتناسب مع ما نراه على شاشات التّلفزة وأغلفة المجلّات،
وبالتّالي كل إنسان يقترب من هذه المقاييس الجماليّة يعيش مرتاحاً أكثر من الّذي
يبتعد ظاهريّاً عن هذه المقاييس.
وقد يتعرّض بعض الأشخاص الّذين يعتبرون أنّهم لم يحظوا بهذه الميزات الجماليّة،
إلى اضطرابات سلوكيّة، كما أنّهم يعتبرون أنّ المجتمع يرفضهم وأنّ لا قيمة لهم إلّا من خلال ظاهرهم. فيعيشون نوعاً من نقمة، فتتحوّل أهداف حياتهم إلى أهداف غير أساسيّة
وغير جوهريّة كي تتناسب صورتهم مع تلك الّتي يريدها المجتمع.
وفي حين أنّ المجتمع يتطوّر ويتبدّل، وينتقل من مرحلة إلى مرحلة،
نرى أنّه ما زال الكثير من أفراده يعتمدون نفس المقاييس بحيث إنّها أصبحت تشكّل جوهر حياتهم،
في الوقت الّذي يجب أن تبقى هذه المقاييس خارجيّة لا أكثر ولا أقلّ.
إنّ المقاييس الّتي يفرضها المجتمع تتبدّل وتتغيّر في قلب العصر الواحد ولا نتوقّف عندها،
فالذّوق يختلف من شخص إلى آخر.
وكي لا يرزح الإنسان تحت عبء الظّاهر ويحدّد نفسه بمقاييس تتبدّل وتتغيّر وقد تزول،
وكي لا يشعر بعقدة نقص، وانتقاص من أهمّيته،
سوف نعرض خمسة مقاييس تكوّن جمال الإنسان الدّاخليّ
وتجعله يتمتّع بجمال داخليّ يظهر بالتّعاطي مع الخارج.
- المقياس الأوّل: التّفكير
الجمال الأوّل والأساسيّ في الذّات الإنسانيّة هو التّفكير.
فالإنسان الّذي يفكّر يتعارض والإنسان الغرائزي الّذي يحيا بشكل عام ردّات فعل مستمرّة،
وبالتّالي يحجّم ذاته بهذا السّلوك الانفعاليّ،
كما أنّه ينقاد إلى تصرّفات الآخر دون أن يتّخذ قراراً شخصيّاً،
فيأتي سلوكه انعكاساً لتأثير الآخرين عليه.
بينما الإنسان الّذي يفكّر بعيداً عن ردّات الفعل،
هو الّذي يضع مسافة معيّنة بينه وبين ذاته،
ويتحكّم بردّات فعله فيأتي سلوكه مسنداً إلى تفكير عميق ومتأنٍّ.
- المقياس الثّاني: الصّدق مع الذّات
كلّ إنسان يتمتّع بصفات إيجابيّة وأخرى سلبيّة، وعليه أن يوظّف إيجابيّاته لينمو ويتطوّر
ويحاول تخطّي السلبيّات.
لذا عليه أن يتمتّع بالصّدق مع الذّات، فيعرف أخطاءه جيّداً ويعرف إيجابيّاته،
فيحاول التّخفيف من الأولى ورفع الثّانية. هذه الميزة تساهم في خلق علاقات مميّزة مع الآخرين.
فالصّادق مع ذاته يصدق مع الآخر، وبالتّالي هو إنسان ثابت ومستقرّ.
- المقياس الثالث: التّمسّك بالمبدأ.
الإنسان الّذي يتمسّك بمبدئه يكوّن علاقات سليمة مع الآخرين،
فالمبدأ الّذي يعيشه يبني على أساسه كلّ شيء من حوله ويتميّز بالاتّزان والرّصانة
والكثير من الاستقرار ولا يتقلّب ويتبدّل مع المتطلّبات الخارجيّة،
ولا ينجرّ خلف آراء تناسب مصالحه.
- المقياس الرّابع: عيش القيم.
نادرون هم الأشخاص الّذين ما زالوا يتمسّكون بالقيم،
وعندما نتحدّث عن القيم نعني بها كلّ التطلّعات المستقبليّة
الّتي يطمح لها الإنسان على أساس هذه القيم.
ولا يبيعها لأيّ سبب كان أو لأي هدف شخصيّ.
* القيمة الأولى
الواجب التّمسّك بها هي القيمة العائليّة،
فبدونها ينتفي استمرار الحياة البشريّة.
والمقصود بالعائلة هو القيمة وليس العائلة بشكلها الظّاهريّ،
وقليلون هم من يعيشونها اليوم رغم الصّعوبات والمشاكل الحياتيّة.
فنرى أنّ أقلّ خلاف يؤدّي إلى انفصال بين الزّوجين وتفكّك للعائلة
وبالتّالي خلق مجتمع غير مستقرّ ومضطرب.
فالإنسان الّذي يعيش القيم هو الّذي يتمسّك بالقيمة العائليّة مهما كانت الإشكاليّات والصّعوبات
الّتي قد تحصل، ويحاول السّيطرة عليها بهدف الاستمراريّة والنّجاح.
* القيمة الثّانية، هي القيمة الوطنيّة.
ونرى أشخاصاً يناضلون ويجاهدون ويتعبون في سبيل أوطانهم لتكون أفضل،
ويكرّسون حياتهم من أجل نموّها وتطوّرها، مهما واجهوا من صعوبات.
بل هم مستعدّون لتقديم أرواحهم قرباناً على مذبح الوطن.
* القيمة الثّالثة،
هي القيمة الإنسانيّة وهي أن ينمو الإنسان مع الآخر وليس بعيداً عنه،
فيقرّ بواجباته نحوه ويحترمه احترامه لنفسه، فيخلق جوّاً من التّعايش البشريّ.
وهذه ميزة جماليّة مهمّة جدّاً، إذ بها ينتفي عبء الظّاهر،
فينعم المجتمع بالتّعدّدية والدّيموقراطيّة والمساواة بين الأفراد.
- المقياس الخامس: محبّة الله
محبّة الله ليست شعاراً نحمله أو عبارة نستخدمها إنّما هي واقع حياتيّ،
يمنح الإنسان جمالاً لا متناهياً.
والأشخاص الّذين يحبّون الله، تراهم قادرين على التّرفّع عن المادّة،
ليتعمّقوا في الذّات الإنسانيّة، ويذهبون إلى ما هو أبعد من الظّاهر ليعاينوا الجوهر الإنسانيّ.
كما أنّهم قادرون على التّفاعل مع الدّاخل بعيداً عن الظّاهر،
فيتعايشون مع أخيهم الإنسان بتواضع ومحبّة.
هؤلاء هم من ينطلقون بتفكيرهم من الأرض إلى السّماء فيمنحون قيمة
لكلّ ما يعيشونه على الأرض، وبالتّالي تكون العلاقة معهم مريحة ومحبّبة،
فيها الكثير من الأمان والسّلام.
المسؤول الأوّل عن هذه الميزة الجماليّة هم الأهل الّذين عليهم أن يزرعوا في قلوب أطفالهم حبّ الله وليس الخوف منه، فيبنون إنساناً جميلاً قادراً على المحبّة والتّواضع.
أمّا الّذين لم يتعرفوا على حبّ الله فعليهم أن يسعوا إليه ومتى لامسوه امتلكوا
جمالاً لا تبدّله سنون ولا تغيّره أيّام وظروف ولا تشوّهه الحياة.
إضافة تعليق