الخلافات في الكنيسة
في السبب في اختلاف أولاد الكنيسة
والخطر في مضاددة بعضهم لبعض
القديس اسحق السوري
------------------------------------------
المسيحية ومحبة الله للبشر ونعمة ربنا يسوع المسيخ تخلصت من ضلالة العالم هذه الكائنة كإرادة الناس، ورُبيت من آباء عابدين مسيحيين، وتعلمت منذ كنت عندهم صبيًا كتبًا مقدسة جلبت إلى معرفة الحق. ولما كبرت تغربت كثيرًا، ووقفت على أمور كثيرة، ورأيت أن جميع الصنائع (تتفق) إتفاقاً عظيمًا، وتوحد قلوب الذي يعملون في كل واحد منها.
وأما في كنيسة الله التي مات عنها وأفاض عليها من غنى روح قدسه، فرأيت شقاقاً عظيمًا بين الناس، ومضاددة كثيرة من بعضهم لبعض وللكتب وأصعب الأمور، مع مضاددة الرؤساء بعضهم لبعض في الرأي والاعتقاد، ومضاددة لوصايا ربنا يسوع المسيح، وتنفيرهم لقطيعه بدون شفقة. حتى كمل عليهم المكتوب، إن قومًا قاموا وقالوا كلامًا متقلبًا واجتذبوا إليهم تلاميذ. (أعمال 20: 30).
فلما نظرت ذلك تحيرت في معرفة سبب هذه الشرور. فأولا صرت في الظلمة، وصار فكري كميزان دفعة يميل إلى هذه الناحية ودفعة إلى الناحية الأخرى. فدفعات تقنعني أفكار أن سبب ذلك هو العوائد الرديئة التي صارت في الناس، ودفعات أضداد هذه الأفكار قائلة: ليس هذا يحقق الكتب الطاهرة.
فأعييت بتفكيري في هذا زماناً طويلا. وتذكرت الكلام المكتوب في سفر القضاة القائل إن في ذلك الزمان كان كل واحد يعمل ما استقامت (إليه) يده. ثم يذكر أنه في تلك الأيام لم يكن ملك لإسرائيل (قض 17: 6). فقلت لعل هذا الافتراق (الانقسام) هو من مخالفتنا للملك الحقيقي الذي هو الله. فصرنا كمن ليس عليهم ملك، عندما ابتعد كل واحد عن تعليم ربنا يسوع المسيح وأقام له حدودًا وحججًا، تاركاً قضاء مشيئة الله، مريدًا أن يصير رئيسًا لذاته.
فطاب قلبي بهذا لأني رأيت أن اتفاق كثيرين يدوم إذا هم أقاموا جميعهم ناظرين إلى مقدمهم فقط، سامعين له وحده. وأن الموضع الذي ليس فيه رئيس واحد، يترأس عليه كثيرين بغير رتبة، ويضاد بعضهم بعضًا، ورأيت أن ذباب النحل يكون له ناموس الطبيعة كذلك. وإذا كانت توجد ألقاب لكثيرين فتلك علامة على كونهم ناظرين إلى واحد وتابعين لرئيس واحد. فالبحقيقة أن المقاومة ومضاددة البعض للبعض الآخر هي علامة قوم ليس عليهم رئيس.
وبهذا نعلم أن الملك الحقيقي قد ابتعد عنا كما هو مكتوب "قال الجاهل في قلبه ليس إله" (مز14: 1). ودل على تحقيق قوله هذا فقال إنهم فسدوا وتنجسوا بأفكارهم (مز14: 1) فالأعمال الردئية التي يصنعونها ظاهرًا تبكت نفاقهم المخفي. وقد ذكر المغبوط بولس نفاق هؤلاء إذ قال: "وكما أنهم لم يمتحنوا أن يجعلوا الله لهم بمعرفة، أسلمهم الله إلى قلب غير ممتحن ليعلموا ما لا يجب، ممتلئين من كل شر وظلم وخبث ومحبة النصيب الأكبر، ممتلئين حسدًا... وتتمة الكلام" (رو1: 28-29). وأنا أظن أن الرسول لم يميز هذا من ذاته وحده، إذ له المسيح ناطق فيه. لكنه هوى أن يميز هذا من جهة الصوت القائل إن من أجل هذا تكلمت مع الجموع بأمثال ولم يفهموا سرائر الإنجيل المقدسة من أجل أنهم سبقوا فأغمضوا أعينهم وحدهم وأغلقوا آذانهم وقسوا قلوبهم، لكي يكون لهم هذا عوضًا عن عقوبتهم (أع28: 27) أي لا يريدون ما هو أعظم لأنهم صاروا عميان بمشيئتهم بأعين قلوبهم عن أن يروا الأوائل. ومن هذا خاف داود فقال: "أنر عيني لئلا أنام في الموت" (مز12: 3).
فبهذه الأشياء قلت إن جميع الشرور إنما صارت من أجل قلة المعرف بالله. وإن كانت (لنا) معرفة فهي غير ثابتة. وإن سبب مضاددة بعضها لبعض هو أننا لم نجعل ذواتنا مستحقين أن يرأسنا الله ويحل فينا. ولما عرفت هذا، لم أدر مقدار عظم هذا الشر! لأننا – إذا كنا قد رأينا الاتفاق والوحدانية كائنين في البهائم بطاعتها للمترأس عليها – فماذا يقال فينا نحن الذين فارقنا وعارضنا بعضنا بعضًا ووصايا الله التي كتبت لنا من قبل الله الصالح لتكون لنا تأديبًا في هذا العالم كما تكون حجة علينا في اليوم المرهوب إذا لم نتأدب بالمكتوب "الثور يعرف قانيه، والحمار معلف صاحبه. أما إسرائيل فلا يعرف! شعبي لا يفهم" (إش1: 3).
وقد قال الرسول "فإن كان عضو واحد يتألم، فجميع الأعضاء تتألم معه. وإن كان عضو واحد يكرم، فجميع الأعضاء تفرح معه" (1كور12: 26). وذلك لكي لا تكون في الجس فرقة. بل جميع الأعضاء يهتم بعضها ببعض، وتتحرك بنفس واحدة كائنة فيها. وأنا أظن أن هذه الشركة هكذا كانت حينما كان في كنيسة الله اتفاق، هذه التي قال عنها "أنتم فجسد المسيح وأعضاؤه" (1كو12: 27). ورأس واحدة حقة له هي المسيح، تمسك جميع الأعضاء وتصل ما بين الكل، البعض بالبعض الآخر باتفاق.
فالذين ليس لهم القلب الواحد، ولا يحفظون رباط السلامة ووداعة الروح، بل فيهم الشقاق، جسارة عظيمة أن يُظن أنهم أعضاء المسيح أو أنه ملك عليهم. فحقاً إن فكر الجسد هو الذي ملك عليهم كقول الرسول: إن الذي أقمتم أنفسكم له لطاعته، أنتم عبيد الذي تطيعونه. وقد قال (بولس الرسول) "فإنه إذ فيكم حسد وخصام وانشقاق ألستم جسديين؟!" (1كو3:3). ثم بين عاقبة الأعمال الرديئة بأنه لا شركة لها مع عبادة الله فقال: "لأن اهتمام الجسد هو عداوة لله إذ ليس هو خاضعًا لناموس الله" (رو8: 7). حقاً إنه "لا يستطيع ذلك" لأن ربنا قد قال "لا يقدر أحد أن يخدم سيدين" (متى6: 24).
وإذا كان المسيح ابن الله الوحيد – الذي كان كائناً من قبل كل شيء كان – يقول "لأني قد نزلت من السماء ليس لأعمل مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني" (يو6: 38). وقال "أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً" (يو5: 30). وقال "لأني لم أتكلم من نفسي لكن الآب الذي أرسلني هو أعطاني وصية ماذا أقول وبماذا أتكلم" (يو12: 49). ومكتوب أيضًا عن الروح القدس الذي يقسم المواهب العظيمة ويفعل في الكل "لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به" (يو16: 13). – يعني اتفاق جوهر الطبيعة الإلهية – فكيف لا يجب ضرورة أن تحفظ كنيسة الله اتفاق الوحدانية الذي للروح برباط السلامة وتكمل المكتوب في الأعمال إن "وكان لجمهور الذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة" (أع4: 32). ولم يكن أحد منهم – كالظاهر – يقيم له إرادة، بل جميعهم يطلبون من الروح القدس الواحد كمشيئة ربنا القائل "لأني قد نزلت من السماء ليس لأعمل مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني" (يو6: 38).
وبهذا ومثله علمت أنه واجب أن تكون بيعة الله بقلب واحد، وأنه خطر عظيم وهلاك هو قلة الطاعة لله ومضاددة مشيئته بمضاددة مشيئة بعضنا البعض. فهذا كتبناه لكم لأجل الاختلاف، ونضع لكم بعده ما يجب بخصوص مخالفة الوصايا. —