الحَبَل بيسوع
بقلم الاب الشماس خطيب الكرسي الانطاكي صقر انطاكيا المعلم اللاهوتي الشيخ
اسبيرو جبور
من كتابه :" الاعياد السيدية" المنشور في موقع " السراج الارثوذكسي"
الجزء الاول:...
لَمَّا قالت مريم العذراء: "ها أَنذا أَمَةٌ للربِّ "، تمَّ في تلك اللَّحظة الحَبَلَ بيسوعَ المسيح.
فاذاً، لم تلتصقُ الرُّوحُ بالجسَدِ يومَ الميلاد كما يَكتُبُ البعض بل التصَقت يومَ البِشارة. أَقولُ "التصَقَت" للردِّ على الَّذينَ يقولونَ إِنَّ التجسُّد تمَّ في عيد الميلاد.
المسألةُ ليسَت إِلتصاقاً، المسألةُ هي مسأَلة خَلقْ.
خَلَقَ الرُّوحُ القُدُس الجسدَ ليسوع، ووضعَ في هذا الجسَد روحاً بشريَّةً. ما كان الجسدُ موجوداً قَبلاً ولا الرُّوحُ موجودةً قبلاً. وُلِدا في أَقلِّ من رمشةِ عينٍ واتَّحدا بالأُقنومِ الإِلهي في الرَمشة العيِن نفسِها. فإِذاً، في لحظة الميلاد كانت الطبيعة البشريَّة موجودة في تمامِها روحاً وجسداً.
وبِناءً عليهِ يقولُ آباء الكنيسة الأُرثوذكسيَّة إِنَّ المرأة حين تحبَل يَخلُقُ الله في لحظة الحَبَل شخصاً فيه روحٌ وجسدٌ. الجسَد من الوالدَينِ، والرُّوحُ من الله.
تركيبُ جِسمُ الِإنسان آيةٌ من الآيات! فَكَمْ بالحَري حينما يكونُ تركيبُه معقَّداً كما هوَ، أَي شخصٌ بَشَريٌ فيه روحٌ وجَسَدٌ! صارَ في بطنِ العذراءِ مريم منذ تلك الَّلحظة في يومِ البشارة، الإِنسان يسوعَ المسيح متَّحِداً بالإِله إِتِّحاداً لا يعلَمُهُ إِلَّا الله.
الطبيعةُ البشرية جزءٌ لا يتجزَّأ من شخصِ يسوعَ المسيح الى أَبدِ الآبدين ودهرِ الداهرين. لا انفكاك أَبَداً بين الطبيعتَين البشريَّة والإِلهيَّة. الأُقنومُ الشخص واحدٌ، وشخصُ يسوع واحد. يسوع ليسَ شخصاً للطبيعة البشريَّة الآن، وللطبيعة الإِلهيَّة بعدَ حين. يسوع، هوَ على الدَوام شخصٌ للطبيعتَين الموجودتَين في شخصِهِ الإِلهي.
فإِذاً، هناكَ حبَلٌ عاديٌّ ولكن بفِعلِ الرُّوحِ القُدُس. وما دامَ بفِعلِ الرُّوح القُدُس فإِذاً هذا الحَبل هو حبَلٌ طاهرٌ، مُطهَّرٌ، مُقدَّسٌ، إِلهيٌّ.
نَما يسوع في بطنِ العذراءِ مريم تسعةَ أَشهُرٍ حتى حانَ ميلادهُ. نما كما ننمو نحنُ ولكن طبعاً ليس فيهِ مَيلٌ الى الخطيئة. العذراءُ حُبلى وهي تعلمُ أَنَّ ما في بطنِها متَّحدٌ بالأُلوهة. هل وَسعَ بطنُها الأُلوهة؟ لا، حاشى فالأُلوهة لا تُحَدُّ ولا توصف.
نؤمنُ بأَنَّ الجنينَ في بطنِها متَّحدٌ بالطبيعةِ الإِلهيَّة في شخصِ ربِّنا يسوعَ المسيح، وموجودٌ في شخصِ ربِّنا يسوع. الموسوع في الحشاء متَّحِدٌ بمَن لا يسَعَهُ زمانٌ ومكان، خالقُ السماءَ والأَرض وكلَّ ما فيهما.
هذا عجبُ الأَعجاب! كيف يَسَعْ بطنُ العذراءِ مريم إِتِّحاداً إِلهيًّا بشريًّا، إِتِّحادُ الإِله بالجنين دونَ أَن يكونَ محصوراً في زمانٍ ومكان! الملائكةُ والبشر يُعَظِّمونَ ويُمجِّدونَ ويُسبَّحونَ هذا السرِّ الإِلهي العظيم.
نَما يسوع في بطنِ والدتِهِ مريم نُموًّا طبيعًّا حتى وَلَدَتْهُ في نهايةِ الشهر التاسع، يومَ ميلادِ يسوع كما نقول.
تحرَّكَ في بطنِها وقدَّسَ أَحشاءَها، قدَّسَها برمَّتِها. الجنينُ الَّذي في بطنِها متَّحِدٌ بالأُلوهة، فما المردودُ عليها؟ أَيَّةُ قداسةٍ نالَت، أَيَّةُ برَكةٍ نالَت، أَيُّ مجدٍ نالت، أَيُّ أَنوارٍ نالَت؟ اللهُ وحدَهُ يعلَم. آمنَتْ بالسِرِّ وآمنَتْ بالتجسُّدِ الإِلهي. آمنَت بأَنَّ الله سيتَّخِذُ جسَداً منها، جسداً يسكُنُ في بطنِها ولَكِن هل فهِمَت هيَ هذا السرّ؟ السرُّ أَكبرُ منها.
سرُّ محبَّة الله أَكبرُ منها لأَنَّهُ سرٌّ إِلهيٌّ. نحنُ نقدِّسُ مريمَ العذراء ونُجِلُّها ولكنَّها إِنسانٌ بلَغَ الكمال وليست إِلهاً. سرُّ المحبَّة الإِلهيَّة يفوقُ كلَّ وصفٍ. مريم العذراء وحدَها من بينِ البشر أَدرَكت سرُّ المحبَّة الإِلهيَّة أَكثرَ من سِواها ولَكِن هذا السرُّ يبقى فوقَ طاقتِنا البشريَّة وفوقَ طاقةِ الملائكة.