سرّ الزيت المقدّس
لِمَ اختارت الكنيسة الأرثوذكسيّة أن تقيم سرّ الزيت المقدّس
مساء يوم الأربعاء العظيم؟
أوّلاً،
يجب أن نذكر أنّ سرّ الزيت سرّ شخصيّ، يعطى لكلّ معمَّد في أوضاع خاصّة
(مرض طارئ أو مزمن، مثلاً).
وهذا، ضائعًا جزئيًّا هنا وكلّيًّا هناك، يمكن أن يدلّنا على أنّ الكنيسة،
ربّما خوفًا من أن تُفقد ممارسة أحد أسرارها، قد ارتأت أن توقِّع إقامته في هذا الأسبوع
الذي له مكانة خاصّة في قلوب المؤمنين. أمّا لِمَ مساء يوم الأربعاء، فيفترض أن نتأمّل
سريعًا في ما يكوّن هذه الأيّام العظيمة.
لا يفوت المؤمن العارف أنّ الأسبوع العظيم يحرّكه أمران:
الكتب المقدّسة والقرابين.
الأمر الأوّل نتبيّنه لا سيّما في الأيّام الثلاثة الأولى
التي تعرض علينا مواضيع كتابيّة حصرًا.
يوم الإثنين: نقيم ذكرى يوسف الكلّيّ الحسن (تكوين 37-50)،
والتينة العقيمة التي لعنها الربّ (متّى 21: 18-22).
يوم الثلاثاء: يأتي بذكر العذارى العشر (متّى 25: 1-13).
يوم الأربعاء: فرض آباؤنا الإلهيّون أن نذكر المرأة الزانية التي مسحت الربّ بطيب
(متّى 26: 6-16).
وأمّا الأمر الثاني، فيكشفه أنّنا، باستثناء يوم الجمعة العظيم،
تحيينا الكنيسة، في هذا الأسبوع، بمناولة القرابين في كلّ يوم.
وهذا، أمرًا واحدًا، يبيّن أنّها تريدنا أن نمشي بالربّ، كلمةً وقرابين، صوب فصحه.
فالمسيرة نحو الربّ الحيّ إنّما تتمّ فيه، أي بما وهبنا من نعمه.
ما علاقة هذين الأمرين بسرّ الزيت المقدّس؟
هذا سؤال تدفعنا الإجابة عنه إلى أن نستلهم أمرًا نقوله علنًا وآخر نكاد ننساه.
ما نعلنه أنّنا نتوخّى من هذا السرّ الشفاء من أمراضنا الجسديّة والنفسيّة.
نأتي إليه، كثرًا عمومًا، حبًّا ورغبةً في إتمامه.
فأمراضنا تتعبنا، ونريد أن نشفى منها.
ولكنّ ما نكاد ننساه هو ما تكشفه نصوص خدمته عينها،
أي أنّه سرّ شفاء من الخطايا أيضًـا (ولا سيّما التي ننساها ربّما عن غير قصد).
هذا لا يعني أنّه يحلّ محلّ سرّ «التوبة والاعتراف»، (فما من سرّ يحلّ محلّه آخر)،
ولا أنّ ثمّة رابطًا ثابتًا، في تعليمنا، ما بين الخطيئة والمرض،
بل يعني أنّ سرّ الزيت يعرض علينا اليوم، لينبّهنا إلى أن مسيرتنا نحو الفصح
لا تكمل إن لم يسكننا أنّ الخطيئة مرض قاتل، لا بل هي المرض الوحيد في الكون،
ونخلع عنّا كلّ عيب علق بنا أو تعلّقنا به. هل يشرّع لنا إتمام سرّ الزيت، في هذا اليوم،
أن نتكلّم على خطيئة معيّنة؟ ما قلناه، يدلّنا على أنّ الأمر يبدو كذلك، أي أنّ الكنيسة تريدنا
أن نشفى لا سيّما من مرض إهمالنا كتبنا والقرابين، أي، كما بيّنا أعلاه، مرض إهمالنا الربّ نفسه.
وهذا يدعمه أنّنا، منذ مساء يوم الأربعاء، الشخص الوحيد، الذي تدعونا الكنيسة إلى أن نثبّت نظرنا فيه، إنّما هو ربّنا يسوع الذي سيعاني عذاب الموت الذي سبّبته خطايانا. فالكنيسة،
بهذا التوقيع، كما لو أنّها تقول لنا: «أنتم تعوّدتم أن تلجأوا إلى الربّ متى اعترتكم مصاعب،
أمراض، خطايا. وإيّاكم أن تهملوا عادتكم. فالربّ، ربّكم، الذي سيحييكم في عيد الفصح،
يريدكم أن تعرفوا أنّ ما يشفيكم لا يعطيكم إيّاه في مواسم خاصّة فحسب. فقد أعطاكم كلمته وقرابينه،
ليهبكم، ملتزمين، «دواء الخلود». وإلى هذا ومنه، أريدكم أن تنتبهوا إلى أمر ربّما لا تعيرونه الأهمّيّة التي يطلبها. سأمسحكم، الآن، بزيت مقدّس. وهذا، إلى كلّ مَنْ يحتاج إلى شفاء فيكم
(وثقتي بأنّكم جميعًا تحتاجون)، أريدكم أن تأخذوه، أيضًا، من أن أجل أن تشفوا من مرض نسيان
أنّ الربّ يريدكم له وحده. أنتم تلجأون إليه، ليهبكم «كلّ ما تطلبونه للخلاص».
وحسنًا تفعلون.
ابقوا على طلباتكم، ولكن ضمّنوها، فيما تستقبلون هذه المسحة، أنّكم ترغبون فيه وحده.
أنتم ستكملون هذا الأسبوع العظيم. أيّامه الباقية موضوعها، حصرًا، حبّ ربّكم الذي سيذوق،
طوعًا من أجل خلاصكم، آلامًا رهيبةً،
«وأعني: البصاق واللطمات والضربات والشتائم
والضحك ولبس البرفير والقصبة والإسفنجة والخلّ والمسامير والحربة،
وعلى الأخصّ الصليب والموت».
سأمسحكم بما يشفيكم من جنون ما ينساه معظمكم قليلاً أو كثيرًا.
فأضيفوا هذا الجنون فيما تتقدّمون إلى نوال مسحتكم. وكفّوا عنه. وأكملوا الأسبوع العظيم. وعيّدوا الفصح. وكونوا في فصح ينعشه، في قلوبكم، أن تكونوا للربّ الحيّ الذي أحبّكم بسخاء،
وأعطاكم نفسه في كلّ ما أعطاكم».
هذا ليس إسقاطًا على معنى سرّ الزيت،
بل تقوله لا سيّما النصوص الكتابيّة التي تُقرأ فيه.
فبعد قراءة الرسالة الأولى التي تشير إلى هذا السرّ
(يعقوب 5: 10-16)
والإنجيل الأوّل الذي يدلّ على مادّته الأساسيّة، أي الزيت (لوقا 10: 25-37)،
الأناجيل الأخرى (لوقا 19: 1-10؛ متّى 10: 1 و5-8؛ متّى 8: 14-23؛ متّى 25: 1-13؛
متّى 15: 21-28؛ متّى 9: 9-13)
تُظهر يسوع، شافيًا، قديرًا في دعوة الناس إلى اتّباعه وحده، والرسائل الأخرى
(رومية 15: 1-7؛ 1كورنثوس 12: 27-30 و13: 1-8؛ 2كورنثوس 6: 16-18 و7: 1؛ 2كورنثوس 1: 8-11؛ غلاطية 5: 22-26 و6: 1-2؛ 1تسالونيكي 5: 14-23)
تكلّمنا على الفضائل (الصبر والتعزية والوحدة والمحبّة والطهارة والصلاة والفرح والسلام
واللطف والصلاح والإيمان والوداعة والعفاف والتواضع والعضد الأخويّ والتمسّك بما هو حسن)
التي، قبولنا إيّاها، يُظهر أنّنا للربّ المحيي أبدًا.
يبقى أن نسارع إلى أن نقيم هذا السرّ العظيم،
كما أُوصينا، «باسم الربّ» واثقين برحمته الغنيّة،
ونكمل مسيرتنا نحو الفصح الذي كان،
لنكون أشخاصًا أصحّاء في كلّ ما يمجّد ربّنا في العالم.