يوم الثلاثاء العظيم
"لذلك كونوا مستعدين"
يتابع الثلاثاء العظيم التأمل في موضوع عودة المسيح والدينونة التي سيمارسها على البشر.
ولكن مع فرق أنه في يوم الاثنين كان التشديد على عنصري المفاجأة والرعب الموضوعين
اللذين يرافقان المجيء الثاني. أم اليوم فتشدد النصوص على ضرورة اليقظة,
التي يفرضها علينا المجيء الثاني والدينونة, وضرورة التهيئة الداخلية لهما.
تقام خدمة الختن بعد صلاة النوم. ونقرأ مقطعاً إنجيلياً طويلا (متى22: 15-39:23)
حيث يوبخ يسوع المسيح الكهنة والفريسين والكتبة الذين يطرحون عليه أسئلة مثيرة
والذين لا يكتفون بعدم دخولهم إلى الملكوت, بل يمنعون غيرهم من ولوجه.
ثم يتوجه يسوع بحزن بالكلام إلى أورشليم.
ونتابع في القداس البروجيازماني القراءات النبوية.
فتكتمل رؤية حزقيال وتنتهي باعلان مجد الرب وسماع الصوت القائل:
"قم يا ابن آدم , قم على قدميك فأتكلم معك".
يقول لنا الله هذه الكلمة في كل لحظة.
أترانا نريد حقاً أن نسمع ما يبتغي نقله الينا؟ أنسمعه حقاً؟
كم نمضي يومياً من الوقت في الحديث معه تلقائياً؟
أسيكون الأسبوع العظيم هذا زمن سماع صوته؟
ونتابع قراءة من سفر الخروج, كيف سلم موسى بعد موبده لمياه النهر
وكيف نجا على يد ابنة الفرعون. وهكذا نجا الشعب اليهودي كله
فيما بعد من مياه البرح الأحمر.
وهكذا ننجو نحن أيضاً من المياه الواسعة للخطيئة والموت.
في التلاوة الثالثة من سفر أيوب, نرى الضيقات تنهمر عليه وكيف يصبر عليها:
"الرب أعطى والرب أخد. فليكن اسم الرب مباركاً".
يبدأ انجيل القداس بالتذكير بأن ابن الإنسان سيأتي بطريقة مفاجئة غير منتظرة,
ثم يوسع الموضوع نفسه بواسطة ثلاثة أمثال: مثل العبد الرديء الذي يفاجئه سيده,
ثانياً مثل العذاراى العاقلات والعذارى الجاهلات, وأخيراً مثل العبيد الذين يسألهم معلمهم
عن مصير الوزنات التي أعطاهم. وتنتهي التلاوة بكلام يسوع عن الدينونة حيث سيكافئ
من خدمه في شخص المرضى والفقراء والسجناء والغرباء
ويدين الذين لم يتعرفوا عليه في هؤلاء.
أما عن مثل العذراى العشر فالمصبح الذي يجب أن نصطحبه لملاقاة يسوع
لا يضيء إلا إذا كان مملوءاً بالزيت. والزيت يرمز إلى المحبة وبدون هذا الزيت
لا يمكن الحصول على النار والدفء والنور التي يطلبها الختن ممن يعتبرهم أخصائه.
من جهة أخرى إن زيت المحبة هذا, الذي يشعل النور الداخلي, لا يمكن "استعارته" من الآخرين:
لا بد أن يكون شخصياً وأن "يُشترى", أي يقتنى نتيجة جهد شخصي مضني.
لشفاعة القديسين والكنيسة قدرة كبيرة, ولكن لا تستطيع الكنيسة ولا القديسون أن يبدلوا
"زيتهم" بالزيت الذي يجب أن نشتريه من الروح القدس,
مصدر كل مسحة وكل محبة. لكن المحبة لا "تُعار" ولا تستأجر,
وعلى كل واحد أن يتحمل مسؤولياته بهذا الصدد, أحب أو لم يحب. وإذا اختار ألا يحب فلن يتمكن من ملاقاة الختن لأنه سيفتقر إلى الزيت ولن يجد الوقت الكافي للإتيان به.
أما مثل الوزنات فيمكننا أن نستنتج منه أن الوزنات التي يسلمها السيد لعبيده
تعني المواهب الطبيعية التي يمنحها الله لمخلوقاته: الصحة, الذكاء, الغنى...
كلها وجدت من الله ولأجله, ولسنا سوى قيمين عليها, مكلفين بإدارة ملك الله.
ولكن الوزنات تعني أيضاً وبصورة خاصة المواهب الروحية وهبة الحياة الإلهية للبشر
والنعم التي يمنحنا إياها الله في كل حين. لأنه من منا يستطيع ان يقول بأنه حافظ كلياً
على رأسمال المواهب الطبيعية والروحية التي أعطاها إياه الله؟ ألم نبذر هذه النعم؟ ألم ندنسها؟
ومن منا يتجاسر على القول أنه أثمر الوزنة التي أعطيت له وأنها أعطت ضعفين أو ثلاثة أضعاف؟,
يحمل المثل إلينا راسلة صلابة إلهية مصحوبة بلطف ورأفة إلهيتين,
وليس لنا الحق في أن نفاضل بينهما, كما أنها تثبت فينا المخافة والدالة الوالديتين.
فلنسمع أولاً كلام العبد الرديء:
"يا رب علمت أنك رجل عنيف تحصد من حيث لا تزرع...."
فيؤنبه سيده على كلامه:
"أيها العبد الشرير الكسول, قد علمت أني أحصد من حيث لا أزرع".
يكمن خطأ العبد في كونه يحمل صورة مغلوطة, قاسية عن سيده أكثر من كونه لم ينَّم ِ الوزنة.
وتوحي هذه الجملة أن, لو تكلم العبد بطريقة أخرى, لو قال:
" يا رب إنك سيد رحوم, وحدك تعرف أن تحصد حيث لم أستطع أن أرزع..
لذلك, رغم خطيئتي الكبيرة, آتي إليك بثقة ودالة",
لو تكلم هكذا لكان قد عفى عنه سيده.
أما الجملة الثانية المهمة فهي:
"كل من يعطي يزاد له, ومن ليس له يؤخذ منه ما يتوهم أنه له".
يجد كثيرون أن هذه الجملة قاسية للغاية وصعبة الفهم, لكن معناها سهل:
إن كل خطيئة تستدعي خطيئة أخرى, وكل عمل صالح يستدعي عملاً صالحاً.
إذا أسلمت ذاتك للشر مرة, ستضعف, وبالتالي تقع المرة تلو الأخرى...
وتجد نفسك على منحدر يصعب عليك التوقف عن الانحدار عليه,
وهكذا تفقد القليل الذي كان بحوزتك. لكن كل جهد من أجل الله , مهما صغر,
سيسهل اللاحقة وكلما ازداد الجهاد تزداد النعمة ويُعطى المزيد. فلننتبه أخيراً إلى الجملة الثالثة:
"أيها العبد الصالح قد وجت أميناً في القليل فسأقيمك على الكثير".
إن الأمانة في الأمور الصغيرة هي الخطوة الأولى في الطريق والشرط الضروري
للأمانة في الأمور الكبيرة. إذا كنت أستطيع أن أتمم الأمور الكبيرة, سأسعى أن أتمم الأمور الصغيرة.
إذا خسرت الوزنات التي أُعطيت لي فسأسعى بتواضع وصبر أن أكون أيمناً في أصغر الأمور,
أن أكون طاهراً, كريماً خدوماً, أميناً خلال الحياة اليومية, إذ يبني الله على أساس الأمور الصغيرة
هذه بناءً شامخاً, وربما يُعطى لي في يوم من الأيام أن أسمع دعوته:
"أدخل إلى فرح ربك".