أيار
مريم وسرّ الفداء (٤)
((إشتراك أم الفادي))
إن ذلك المعلّق على الصليب هو ابن مريم. إنّه لها، نوعاً ما. ولقد تكلّم البابا بينيدكتوس الخامس عشر على "حقوق الأمومة" التي ضحّت بها مريم على الجلجلة... عند الصليب، يقول أيضاً الأب لورنتين، "ما زال يحقّ لمريم أن تقول ما تقوله كلُّ أمّ عن ابنها: "هذا لحمي ودمي"، ويحقّ لها أن تضيف قائلةً ما تقوله كلّ أمٍّ متّحدة في العمق بابنها: "ما لك هو لي، وما لي هو لك. عذابُكَ عذابي. عملك عملي. والفداء الذي كنتَ تستحقّه وحدك، أردتَ أن يكون ذبيحتي أنا أيضاً"... حقّاً، إنّ المسيح وحده فادي الجميع، ابتداءً بمريم المفتداة الأولى. المسيح وحده إله، وحده قد مات، وحده أتمّ الذبيحة بالقيامة والعودة إلى الآب. أمّا مريم فإنّها تشترك في آلام الفادي بالتألُّم الذي أراد له الله ما أراد من قيمة... مريم تستحقّ باسم الصداقة الفريدة مع الله، والاشتراك في التحقيق الأساسيّ لفداءٍ استحقّه المسيح باسم العدالة وعلى قدم المساواة مع الله. إذاً، ليست مريم على مستوى المسيح الذي استحقّ الفداء، ولا على مستوانا نحن الذين يساهمون، إلى حدٍّ ما، في توزيع نعمة الفداء، بل هي على مستوى متوسط لا هو استحقاقيّ بكل معنى الكلمة، ولا توزيعيّ محض. والحال، أنْ قابلنا بين لوقا 2/34- 35 حيث سمعان الشيخ لا يوحي بآلام المسيح إلاّ من خلال تألُّم مريم، وبين سفر الرؤيا 12/ 2-5 حيث يوحنا الرسول، بدلاً من أن يصف مباشرةً آلام المسيح، لا يصف إلاّ تألُّم أمّه المعذبة بآلام المخاض، لَحَظْنا أنّ كل شيء يجري كما لو أنّ آلام المسيح وتألُّم مريم أمرٌ واحد. حقّاً، إنّ المسيح يبقى، في كِلا النصّين، هو مخلّص البشر الوحيد. غيرَ أنّه، في النصّين كليهما، يُعتبر عذاب مريم غير منفصل عن عذابات المسيح الفدائية. لهذا السبب، حقَّ لبرنار برو أن يقول: "إنّ العذراء القديسة لم تتّحد فقط باطنيّاً بيسوع المسيح... لقد صارت "على صورته في الموت"، و"عُلِّقت معه على الصليب"، نوعاً ما- فيل 3/ 10، غل 2/19- ... كانت هناك واقفةً، مشتركةً في كلّ شيء، متحمِّلةً كلَّ شيء، معه... إنّها تحسّ وتحقّق في ذاتها سرَّ يسوع، إلى حدٍّ من العمق والأُلفة لا ولن يبلغه غيرها. ذلك أنّها أمّه وهي، بهذه الصفة، مرتبطة به، بامتيازاتٍ فريدة، من حيث الكيان والنعمة. "إنّها، في أمور الفداء كما في أمور التجسّد، على مستوىً منفرد...، وهي لا تضاهيها أقدس اللواتي ارتسمتْ في أجسادهنّ سِماتُ جروح المسيح. إنّها، والحقُّ يقال، قد تحمّلت من أجلنا عذاباً عظيماً، وأتمّت هكذا ما كان، في كيانها كله، ينقص بعد من شدائد المسيح، من أجل جسده الذي هو الكنيسة."
اشتراك مريم هذا في سرّ الفداء، واضحٌ في التعبير الأيقونيّ البيزنطيّ:
الإيقونوغرافيّة البيزنطيّة تمثّل دائماً العذراء مريم مشتركة مع ابنها في عمله الفدائي. هكذا في أيقونة البشارة، نراها واقفة عند شجرة الحياة الفردوسيّة كما ستقف عند خشبة الصليب. وإن هي مُثِّلتْ وهي تنسج ستار قدس الأقداس، فإنّ ذلك إشارة إلى حجاب الهيكل الذي انشقّ اثنين ساعة موت يسوع... وفي أيقونة الميلاد، نراها متمدّدة أمام مغارة تشبه القبر، وفيها الطفل ملفوف بقُمُط تشبه لفائف الموتى وموضوع في مذود يشبه النعش... وفي أيقونة الصليب، نراها تمسح دموعها باليُسرى وتدل على ابنها باليُمنى. إنّها أوجاع الولادة الروحية للبشرية المتمثّلة في يوحنا الحبيب... وفي أيقونة احتضانها للمسيح بعد إنزاله عن الصليب، نراها باسطةً ذراعيها كما لو أنّها قد صُلِبَتْ معه. هذا وإنّ تقاسيم جسدها تبدو وكأنّها بشكل كأس الخلاص... وفي أيقونة الدفن، نراها تلفّ بيديها جثمان ابنها بالكفن، كما لفّته بالقُمُط يوم الميلاد... وفي أيقونة الصعود، نراها تتوسط الرسل واقفةً وِقفَة الصلاة، كما لو أنّها تحمل رجاء الكنيسة كلّها... وفي أيقونة "سيدة الآلام" المعروفة في لبنان باسم "سيدة المعونة الدائمة"، نرى في الأعلى الملاك رافائيل وهو يحمل الصليب، والملاك جبرائيل وهو يحمل الحرية وإسفنجة الخلّ المعلّقة في رأس قصبة. ينظر الطفل الإلهيّ إلى صليبه وعلى وجهه دلائل الخوف. يكتف رِجْلاً على رجل فيسقط النعل من رِجْله، لشدة الخوف. فيضغط بيديه الصغيرتين على يد أمّه اليُمنى. أمّا هي فإنّها تنظر إلى الأمام متأمّلةً، كما لو أنّها تستذكر نبوءة سمعان الشيخ