١٢ أيار مريم وسرّ الفداء (٢)
|
((فادية مع الفادي؟))
أنّ المجمع الفاتيكاني الثاني يشرح، بكلام مُقتضَب ومكثَّف، اشتراكَ مريم في عذابات ابنها على الصليب، بقوله: ((سارت العذراء الطوباويّة على طريق الإيمان وهي محافظة على الاتّحاد بابنها حتى الصليب حيث، بتدبيرٍ لم يكن غريباً عن التدبير الإلهيّ، كانت واقفة وهي تتألّم مع ابنها الوحيد أشدَّ الألم، وتشترك بعاطفة الأمّ في ذبيحته، وتعطي تقدمة الذبيح، المولودِ منها، رضى حبّها...))... هذا ويقول الأُسقف بُوسُّويه: ((كانت إرادة الآب الأزلي ليس فقط أن تُقدِّم مريم مع الذبيح البريء وتُعلَّق على صليب المخلّص بالمسامير نفسها، بل أن تشترك أيضاً وكلّيّاً في السرّ الذي يتمّ بموته.)) القديس يوحنا وحده يذكر وجود مريم عند الصليب (19\25). سائر الإنجيليّين لا يذكرونها بين جماعة النساء الحاضرات. لماذا؟ لأنّها لم تكن بين اللواتي ((تَبِعْنَ يسوع من الجليل، يَخدُمْنِه)) هو والاثني عشر (متى 17\55، مر 15\41، لو 23\49، 8\2-3)... ولذا فلم تأتِ ببالهم ضرورة ذكرها بينهنّ على الجلجلة. غيرّ أنّ غياب مريم عن الساحة، أثناء حياة ابنها العلنيّة، يُبرِز أهمّيّة حضورها على الجلجلة. والقديس يوحنا وحده أدرك ذلك. أجل كانت هناك ((واقفة)) وِقفَةَ الصلابة والشجاعة، غيرَ محطِّمة بالألم، بل ثابتة في الإيمان المُفعَم رجاءً: ((كانت واقفة)). لا، ما ((غابت عن حِسِّها))، كما نقول في زيّاح الصليب. كانت واقفة. والفعل اليونانيّ يوحي هنا بفكرة الحضور أكثر منه بفكرة الوقوف بحدّ ذاته. كانت هناك، لأنّها أرادت أن تكون، وربّما على الرغم من جهود الأقارب لإبعادها عن مشاهدة الصليب الرهيب. كانت هناك بإرادتها، لتقف مع المخلّص ابنها حتى النهاية. كان توما مستعدّاً أن ((يموت معه)) (يو 11\16). فهل تكون أمّه أقلَّ استعداداً؟ حقّاً، كما يقول المجمع، إنّ حضورها لم يكن ((غريباً عن التدبير الإلهيّ.)) لو لم تكن هناك، اعتقادي أنّ شيئاً مهمّاً جدّاً كان قد ينقص في المسيحيّة. ماذا؟ لست أدري بالضبط. شعوري هو أنه لو لم تكن هناك، لو لم يقل المسيح ليوحنا: ((هذه أمّك))، لكانت المسيحيّة باردة مثل كنيسةٍ بلا قربان، كئيبةً مثل عائلة بلا أمّ. لو لم تكن هناك، لما كانت لُورد وفاطمة والأيقونة العجائبية... لكنّها كانت هناك، ولذا فنحن نعرف أنّها تُحبنا. كانت هناك، ولذا فنحن نحبّها ونكرّمها... هذا ما كان قد ينقص، لو لم تكن هناك...
هل هي فادية مع الفادي؟
يقول المجمع إنّ مريم قد (أعطت تقدمة الذبيح، المولودِ من لحمها، رضى حبّها)). الرضَى، في الإيمان والمحبة، هذا هو سرّ العمل المريميّ: في البشارة، أعطت رضاها بحياة ابنها... على الجلجلة، أعطت رضاها بموت ذلك الابن، لفداء العالم. هنا وهناك، قالت للتدبير الإلهيّ بكامله، دون شرط ولا رجوع: ((فلْيكن)). وإن أردنا اختصارَ حياة مريم بكلمة، قلنا إنّها استمرار ال ((فلْيكن)). أعطت مريم سرّ الفداء ((رضى حبّها)). هل يعني ذلك أنّ رضاها، هنا، كان حاسماً مثل رضاها بالتجسّد؟ بِكلام آخر: إن كان التجسّد متعلِّقاً برضى مريم، هل كان الفداء أيضاً متعلِّقاً برضاها؟ وقصارى القول: هل العذراء مريم فادية مع الفادي بالتساوي؟ من يجيب ((نعم)) فحسب، بدون دقّة ولا توضيح، يرتكب خطأً فادحاً، إذ هو يجعل العذراء فادية بالصفة نفسها التي هي للمسيح!... لا، ليست العذراء فاديةً مع الفادي بالتساوي. فإنّها هي نفسها قد افتُدِيَت مُسْبَقاً. وإنّ وضعَها وأبعادَ أفعالها قد تغيّرت بين الناصرة والجلجلة. ففي الناصرة، كانت تُمثِّل وحدها البشريّة. أمّا على الجلجلة فهو المسيح من يمثّلها بالأولويّة، ومريم بالدرجة الثانية، في الارتباط مع المسيح والتَبَعيّة له. وإن كان رضاها في الناصرة لا غنى عنه، فالأمر يختلف على الجلجلة. إنّما كان ينبغي أن ((تشترك)) في العمل الفدائيّ،بصفةٍ مميّزة، ما دامت، يوم البشارة، قد اشتركت في سرّ التجسّد فرضيت بالعمل الخلاصيّ كلِّه. فادية مع الفادي؟ كلاّ، أقلَّه بحصر المعنى. مشتركة؟ نعم. كيف، وبأيّة صفة؟ يقول يوحنا فم الذهب: ((غَلَبَ المسيح الشيطان بنفس الوسائل التي غَلَبنا هو بها. لقد حاربه بسلاحه، أي بعذراء وخشبة وموت. فالعذراء آنذاك كانت حوّاء عندما طغاها الشيطان. والخَشبة كانت الشجرة. وكان الموت العقابَ المفروض على الإنسان. كذلك أيضاً أصبحت أدوات انتصارنا عذراء وخشبةً وموتاً، إذ حَلّتْ مريم محلَّ حوّاء، وخشبةُ الصليب محلَّ الشجرة، وموتُ المسيح محلَّ موت آدم)) (صلاة المؤمن، الجزء الثاني، 736 – 737). وعليه، فكما أنّه كان لحوّاء دورٌ في الانكسار، كذلك يكون لمريم دورٌ في الانتصار (راجع سفر التكوين، 3\15).