" من شاء أن يتكلّم عن محبّة الله فهو يبرهن على جهلة
لأنّ الحديث عن هذه المحبّة الإلهيّة غير ممكن البتّة."
( القدّيس يوحنا سابا).
من العسير أن نشرح المحبّة الإلهيّة بكياننا المحدود،
ومن غير الممكن الحديث عن عظمتها مهما اتّزنت لغتنا وارتقت تعابيرنا.
تبقى هذه المحبّة الغامرة والوافرة فائقة لكلّ تصوّر ومنطق.
وتظلّ كلماتنا مجرّد تمتمات لا تبلّغ المعنى الأصيل للمحبّة.
ولعلّ الآية الأولى في الفصل الثّالث عشر من إنجيل يوحنا
تشبع بعضاً من رغبتنا في إدراك هذه المحبّة وفهمنا،
إذ إنّها تربط حبّ السّيّد بالموت.
" أمّا يسوع قبل عيد الفصح،
وهو عالم أنّ ساعته قد جاءت لينتقل من هذا العالم إلى الآب،
إذ كان قد أحبّ خاصّته الّذين في العالم، أحبّهم إلى المنتهى.".
أحبّ الرّبّ الإنسان حتّى الموت،
وبذل نفسه في سبيل إسعاده ومنحه الفرح الوافر.
والبذل لا يأتي بمعنى التّضحية، لأنّ التّضحية تحتمل بعضاً من حرمان الذّات.
وإنّما بذل تحمل في عمقها العطاء الّذي هو أهمّ من التّضحية.
جاد الرّبّ بذاته من أجل أحبّائه، وأغدق عليهم بنعمته.
تصاغر من أجل أن يرفعهم، ودخل الموت من أجل إحيائهم.
" ليس لأحد حبّ أعظم من هذا: أن يضع أحد نفسه لأجل أحبّائه."
( يو 13:15).
هذا الحبّ الغامر والمنقطع النّظير يستدعي منّا
وقفة تأمّليّة في ما يخصّ الألم.
ويستوجب منّا انقلاباً على مفاهيم غزت عقولنا وأثّرت في نفوسنا،
وحوّلت مسارنا الّذي يقودنا إلى ملء قامة المسيح.
فحذونا خطوات ضللت سبلنا،
وغرست فينا ثقافة الوجع بدل ثقافة الألم حبّاً.
يُهيّأ لنا أن احتمال الآلام، وقبول الأوجاع يفرح قلب الرّبّ.
بمعنى آخر ما زلنا نعتبر أنّ أمراضنا وصعوباتنا وأحزاننا ومآسينا،
دليل على مشاركتنا لآلام السّيّد. مع العلم أنّ السّيّد أتى
لتكون لنا الحياة لا الموت، والفرح لا الحزن، والسّعادة لا الوجع.
وما برحنا نتصوّر أنّ الوجع جزء لا يتجزّأ من حياتنا المسيحيّة،
ونرهق أنفسنا بالاستسلام له تعبيراً عن الإيمان.
بيد أنّ المسيحيّة ليست دعوة إلى تعزيز الاضّطرابات النّفسيّة،
وليس ربّنا وإلهنا كائناً ساديّاً يستلذّ برؤيتنا نتألّم.
ولمّا كان المسيح قد أحبّنا إلى المنتهى،
استأصل من حياتنا كلّ ألم وخوف واضّطراب.
بالتّالي وجب علينا التّخلّي عن فكرة متأصّلة في داخلنا،
ألا وهي الانغماس في الحزن من أجل المسيح.
الثّابت في المسيح لا يفهم معنى الحزن، ولا يعرف الاستسلام،
ويأبى إلّا أن يحيا فرحاً حبّاً بالمسيح.
إلّا أنّ هذا الثّبات وهذا الفرح يشكّلان عبءاً على حياة الإنسان.
بمعنى أنّهما يستلزمان منه جهداً فكريّاً ونفسيّاً
وروحيّاً للتّأمّل المستمرّ بمحبّة الرّبّ،
ومشاركته ألمه من الحبّ لا من القهر.
من يقبل المسيح صديقاً ورفيقاً،
ويُسكنه في ذاته يحيا الفرح الأبديّ.
فأنّى لنا بعد أن نتحدّث عن أوجاع
وهو الّذي جاء إلى العالم ليزيل كلّ أوجاعنا؟
وأنّى لنا ألّا نسعد بحضور السّماء فينا، وانسكاب الفرح في قلوبنا؟
وإذ نقرأ في رسالة القدّيس بولس إلى كولوسي ( 24:1)
" أفرح في آلامي لأجلكم، وأكمل نقائص شدائد المسيح
في جسمي لأجل جسده، الذي هو الكنيسة".
نفهم جليّاً مدى ارتباط الفرح بآلام الحبّ.
( أفرح في آلامي لأجلكم).
يموت بولس عن نفسه كما سيّده من أجل أحبّائه،
ويقبل هذه الآلام بفرح حبّاً بالمسيح السّاكن فيه
والّذي يعمل من خلاله.
المسيح قبل الألم ولم يطلبه،
احتمل الأوجاع ولم يرجُها،
وبالتّالي فكلّ ما يصيبنا من أوجاع وأحزان ومشقّات،
نقبلها ونحتملها لكنّنا لا نطلبها.
هذا الاحتمال يشكّل قوّة مواجهة للشّرّ المحارب للحبّ،
وباحتماله نعبّر عن إيمان راسخ بغلبة المسيح للعالم.
ثمّة فرق شاسع بين الوجع والألم،
فالأوّل أمر طبيعيّ بديهيّ نتيجة طبيعتنا الإنسانيّة
وما يترتّب عليها من أتعاب.
وأمّا الثّاني فهو قرار حبّ وجهاد صامت يزهر فرحاً وسروراً.
نتألّم حبّاً،
يعني أنّنا أخذنا على عاتقنا بذل الذّات من أجل الحقيقة.
وقرّرنا بملء إرادتنا أن نحمل صليبنا ونسير خلف المسيح المحبّة
مهما ترتّب على هذا القرار من صعوبات.
الألم من الحبّ سعي إلى المجد والكرامة،
واجتهاد للارتفاع على الصّليب بغية الوصول إلى القيامة.