أن يُصوَّر لكم جلّاد الأمس واليوم أنّه الأكثر خوفاً والأشد حرصاً على مستقبل المسيحيّين في هذا المشرق العربي، بعدما استفحل إبّان الحرب الأهلية وبعدها وحتى بعد زوال الوصاية باعتداءاته على لبنان وذبح المسيحيين، خصوصاً في زحلة والأشرفية والشمال والمناطق الشرقية، وتدخّله السافر في حياة اللبنانيين واغتيالهم بمتفجرات طاولت أماكن وأشخاص يعارضون نظام الوصاية، ليجلس اليوم وإلى جانبه للأسف بعض المسيحيين، ومنهم من استسهَل النزاع المسيحي وإيقاع المجازر بينهم والإعتداء على الكنيسة تارة وتأليب المؤمنين عليها طوراً.
فهل إلتأمَت جروح المسيحيّين؟
وهل نسوا من اعتدى عليهم خلال الحرب وبعدها؟
ألا يزال هذا النظام حتى تاريخ كتابة هذه السطور يعتدي عليهم، وإن اختلفت أدواته وأساليبه؟
وهل ظنَّ بعضهم أن مسيحيّي لبنان كانوا في أوروبا يوم اندلعت الحرب اللبنانية عام 1975، أو أنهم امتهنوا السهر أو السفر هرباً من أتون الحرب البشعة؟
ألم يتأثروا بهَول الحرب وويلاتها وآلامها ومآسيها؟
يا سادة، إنّ قدر الأقليات في العالم كله أن تكون أحياناً معرضة لتعسّف الأكثريات، فلو كان هذا الشرق ذا أكثرية مسيحية وأقلية مسلمة لرأينا مشهداً من مشاهد التعسف أيضاً، كما حصل في يوغوسلافيا والعكس صحيح. لكن الحل لا يأتي هنا من خلال رأفة الأنظمة الديكتاتورية على الأقليات، ليس لأنها قادرة على تسويق نفسها الحامي الوحيد لها متى شاءت، والقادرة على ذبحها متى شاءت.
فحماية الأنظمة البوليسية للمسيحيين في الشرق لم تجعلهم يعيشون في حرية حقيقية، ولم تجعلهم نهضويين وخميرة التنوّع في هذا العالم المشرقي الذي يشكل موئلاً للتعددية الدينية حيث تنتشر هذه الأقليات من أقصاه إلى أقصاه، كل ذلك لأن حريتهم غير مُصانة كما يجب.
إن مستقبل المسيحيين وضماناتهم تتأثر، شأنهم شأن أي أقلية على هذه الأرض، بوحدتهم ودورهم في البناء المتين المبنيّ على التلاقي مع المسلم المعتدل في هذا الشرق الذي يجعل من المواطنة والعروبة مبدأ للتلاقي والقيمة الإنسانية أساساً للحوار. فالحفاظ على الوجود المسيحي في هذا الشرق يحتاج إلى رؤية موحدة، يساهم قسم كبير وأساسي من المسيحيين في العمل على عدم إنتاجها في إطار النزاع الضيق على السلطة والنفوذ.
وتحقيق هذه الرؤية يبقى صعب المنال لأن هناك إنفصاماً حاداً بين ما هو مَرجوّ والممارسة، ناهيك عن الأنانية المفرطة التي لا تبالي بالمصلحة العامة للجماعة، التي إذا لم تعمل على التضامن بينها فإنّ تطور الأحداث وحده قادر على إفنائها بسهولة وبفترة وجيزة.
أما المادة الأساسية التي يمكن البناء عليها لتغليب مبدأ الحوار وإثبات الوجود وحمل الآخر على القبول بالتنوّع، فهو ما ورثته الأديان السماوية في نظرتها للإنسان وقيمته الحضارية، إضافة إلى التجارب التاريخية، وقد تُرجم معظمها في شرعة حقوق الإنسان وهي المسوّغ الأساسي الذي يعدل بين المواطنين وأنظمتهم السياسية. فكلما نرسّخ احترام حقوق الإنسان كلما ازدادت الضمانات لجميع الأقليات.
وكلما ترسّخ مفهوم المساواة في المواطنية ارتفعنا بالإنسان من القيمة الطائفية إلى القيمة الإنسانية وصولاً إلى القيمة المواطنية، وقد نصّت المادة الأولى من حقوق الإنسان على الآتي: "يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلاً وضميراً، وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء".
وعليه، فلا يمكن مواجهة التطرف بالانعزال والانغلاق، بل بالتنوع والانفتاح أو الحفاظ على الوجود. ويتمّ ذلك من خلال التضامن بين أبناء الجماعة والتمسّك بشرع الحقوق التي تكرّس حرية المعتقد والحق بالتملك واحترام الخصوصيات الدينية واعتناق الأفكار والانضمام إلى الجمعيات السلمية (غير المسلحة)، والحق بالانتخاب ضمن المساواة في احترام هذا الحق واحترام الدساتير والمبادىء التي تنشأ منها، كاحترام المناصفة التي نصّ عليها الدستور اللبناني لعام 1990 وإبعاد التأثيرات والإغراءات وما أكثرها عن الملكية الفردية لمَنع تهجير جماعة من وطنهم.
أما إذا تزايدَ الاقتتال هنا وهناك وازداد الاعتداء على المسيحيين، فلا يمكن الركون أبداً إلى المتطرفين، وكذلك إلى الديكتاتوريين، لأنّ كلاهما يغتال حريتك قبل أن يعتدي على سائر حقوقك. وإذا لم نتّكِل على كل من يؤمن بالاعتدال فعبثاً البحث عن ضمانات مع من فَتَك بالمسيحيين والمسلمين دهراً، أو من خرج عن المبادئ السماوية للإسلام والمسيحية دهوراً.