التجارب التي تواجه الإنسان المتقدم ونتيجتها
اقتناء الإفراز والسمو – كيفية إرجاع الحرارة الروحية واستعادة الغيرة الأولى
الرسالة العاشرة للقديس أموناس تلميذ الأنبا أنطونيوس الكبير
*******&&&&&&&&&&&&&&&************
بعد أن كتبت رسالتي تذكرت كلمة خاصة دفعتني إلى الكتابة إليكم عن التجارب التي تواجه الإنسان المتقدم بقصد أن تحدره إلى الهاوية بعد بلوغه درجة الكمال.
إنه لأجل هذا يصرخ داود النبي قائلاً:
” قد نجيت نفسي من الهاوية السفلى ” ( مزمور 86: 13 ) .
إن التجارب تُلازم كل مَن يتمسك بروح الرب
ولكن نتيجتها هي أن يقتني الإفراز وينال نوعاً جديداً من السمو.
لهذا لما أُخذ الرسول إلى السماء الأولى فإنه لا شك تعجب من ضيائها.
لكنه عندما ارتفع إلى السماء الثانية فقد ازدادت دهشته أكثر حتى أنه كأنه يقول:
” إني اعتبر ضياء السماء الأولى كأنه ظلمه “
وهكذا حتى بلغ مرحلة الكمال الأخيرة، كذلك تتقدم نفوس الأبرار وتخطو إلى الأمام حتى تصعد إلى سماء السماوات.
فإذا ذقتم هذا تكونون قد اجتزتم كل التجارب… ويوجد بيننا الآن نفوس على الأرض قد بلغت هذه المرحلة .
أكتب هذا لكم يا أحبائي كي تدركوا أن التجارب تأتي للمؤمنين ليس بسبب نقصهم بل لتفوقهم فإنه بغير التجارب التي تواجه النفس فهي لا تستطيع أن تصعد إلى موضع الحياة أي موضع الرب خالقها.
” الروح يهب حيث يشاء ” ( يوحنا 3: 8 ) وهو يهب على النفوس النقية والمقدسة والبارة.
فإن أطاعت الروح فهو يعطيها في البداية مخافة الله مع حرارة.
وعندما يلقي بذاره فيها يجعلها تكره العالم كله بما فيه (1) من ذهب أو فضة أو زينة ….. وهكذا يجعل عمل الله كله أحلى من العسل والشهد سواء كان العمل تعباً أو صوماً أو سهراً أو صمتاً أو أعمال رحمة. وكل عمل يتم لأجل الله يُصبح هكذا حلواً لهذه النفوس حتى يُعلّمها كل شيء.
وعندما يتعلَّم الإنسان كل هذه الأمور يصبح معرضاً للتجربة.
عندئذ كل الأشياء التي كانت تبدو من قبل حلوة تُصبح ثقيلة أمامه
حتى أن كثيرين حين يُجرَّبون يظلون في همهم ويصيرون جسديين.
هؤلاء هم الذين قال عنهم بولس الرسول: ” أبعد ما ابتدأتم بالروح تكملون الآن بالجسد ؟ أهذا المقدار احتملتم عبثاً إن كان عبثاً ” ( غلاطية 3: 3 ) .
ولكن إن قاوم المرء إبليس عند أول محاولة له وهزمه حينئذ يعطيه الرب غيرة مملوءة سلاماً وتعقلاً ومثابرة، لأن الغيرة الأولى (2) مضطربة وغير متعقلة
أما الثانية فهي أفضل وتولد في الإنسان القدرة على رؤية الأمور الروحية عندما يجاهد في معركته الكبيرة
ويصبر لا يهتز.
وكما أن السفينة عندما تكون الريح معتدلة تعمل مجاديفها أكثر
وهكذا تقطع مسافة أكبر فيبتهج ملاحوها ويشرعون بالراحة
هكذا الغيرة الثانية تجلب الراحة بكل طريقة.
الآن يا أبنائي الأعزاء اقتنوا لأنفسكم الغيرة الثانية حتى تثبتوا في كل شيء لأن الغيرة التي يكون الرب موضعها تلغي شهوة المديح وتُزيل شيخوخة العجز وتجعل الإنسان هيكلاً للرب كما هو مكتوب:
” إني ساسكن فيهم وأسير بينهم ” ( 2 كورنثوس 6: 16 ).
فإذا أردتم أن تستعيدوا ثانية هذه الغيرة التي فارقتكم فهذا هو ما ينبغي أن يفعله الإنسان:
أن يعقد عهداً مع الله ويصرخ من أعماق القلب قائلاً:
” أغفر لي ما فعلت بمعرفة وبغير معرفة … لن استمر في مخالفة وصاياك “.
ثم لا يسلك بعد ذلك كما لو كان صاحب سلطان ليُرضي رغباته سواء الجسدية أو الروحية بل بالحري يطرح أفكاره أمام الله ويُبكت نفسه قائلاً لها:
” كيف رذلت الخير وتهاونت في جهادك كل الأيام ؟! “.
وينبغي أن تتذكر كل العذابات وتتذكر أيضاً الملكوت الأبدي مبكتاً ذاتك في كل حين قائلاً لها:
” أنظري يا نفسي أي مجد أعطاه الله لكِ وأنتِ أهملتيه واحتقرتيه !
” وعندما يقول المرء لنفسه هذا منبهاً إياها (في قلبه من الداخل) ليلاً ونهاراً فإن غيرة الرب تحلّ فيه فجأة، وهذه الغيرة الثانية هي أعظم من الأولى.
لأن داود النبي حين رأى الهم المزمع أن يحل به قال:
” تفكرت في أيام القدم، السنين الدهرية ” ( مزمور 77: 5 ) و ” لهجت بكل أعمالك بصنائع يديك أتأمل. بسطت إليك يدي
نفسي نحوك كأرض يابسة ” ( مزمور 143: 5 ، 6 ).
كما يقول إشعياء النبي أيضاً:
” عندما تنحني وتنوح عندئذ تخلص وتدرك كيف يتم هذا نحوك ” (3) ( إشعياء 30: 15 – سبعينية )